معضلة الحريديم أو خلل تأسيسي في الكيان
مشهدٌ يتّسم بالعنف الحادّ في الشارع الإسرائيليّ: الشرطة تنهال ضرباً على أفراد من "الحريديم" في تظاهرة احتجاجيّة على مشروع التجنيد الذي يطاولهم ويرفضونه قطعاً، فيُجرجَرون أرضاً ويُركلون بكرهٍ ظاهر يدلّ على انقسام وتباغض بين اليهود أنفسهم في الكيان المحتلّ، بل على خللٍ يعود إلى اللحظة التأسيسيّة لـ"إسرائيل المخترعة" بتعبير الأكاديميّ المتسامي الخارج على انتمائه اليهودي والصهيوني، شلومو ساند، على أرض فلسطين التاريخيّة. فما هي قضيّة الحريديم التي تحوّلت إلى معضلة كبيرة في مجتمع الاحتلال؟
يعيش المتديّنون اليهود، وبخاصة الحريديم منهم، نوعاً من الحالة الفصامية بين الالتزام بالنص الديني والتصرّف ببعض المرونة مع الأمر الواقع. أمّا الالتزام فهو رفض قيام "دولة إسرائيل" قبل مجيء مسيح اليهودية (المشيح أو المسايا) المنتظر، وأمّا الأمر الواقع فهو التسليم على مضض بتحقّق المشروع الصهيونيّ، وإنْ الخاطئ دينياً والمخالف لإرادة الله، لدولة يهودية على أرض فلسطين (إسرائيل القديمة أو "أرض الميعاد" في الزعم الصهيوني)، فقد جاء في مقال لأحد أكبر حاخامات القرن العشرين، أدمور شالوم شنيؤورسون، المعروف بأدمور ملوبافيتش، أنّ أيّ محاولة بشرية لإقامة كيان قومي يهودي على "أرض إسرائيل"، سواء بواسطة نشاط ديبلوماسي أو عبر إقامة مستوطنات، إنّما تتنافى كلّياً مع الحلم المشيحاني التقليدي والتراث الديني اليهودي. وأتى بعده الحاخام إلعزر شفيرا الذي حارب الفكر والنشاط الصهيونيين، ودعا إلى التمسّك بالفكرة اليهودية التقليدية عن قدوم الخلاص بوصفه فعلاً مفاجئاً وعلى شكل معجزة لا تتضمّن أي تدخّل بشري، وهاجم التلهّف والحماسة لوعد بلفور بين الحريديم، مركّزاً هجومه على منظمة "أغودات يسرائيل" التي تأثرت بوعد بلفور، وحاولت إسباغ معانٍ ومدلولات دينية عليه، في حين أنّ الحاخام شفيرا فسّر وعد بلفور بأنه اختبار إلهيّ لـ"شعبه" مثل الاختبارات السابقة، معتبراً أن وعداً كهذا هو مكسبٌ للصهيونية لكنّه نابع من القوى الشيطانية المقيمة في الأرض المقدّسة التي تحاول إعاقة قدوم المشيح وتحقيق معجزة الخلاص، داعياً إلى العمل على إلغاء وعد بلفور "لأنه سيأتي بعديد من الكوارث والمهالك على شعب إسرائيل". بل بلغ اعتقاد شفيرا حدّ أنّ الصهيونية هي في يقينه العدو الأكبر والخطيئة الكبرى التي ابتلي بها "شعب إسرائيل" على مدار تاريخه، محذّراً اليهود الذين آمنوا بالصهيونية أو تبنّوها وسلكوا دربها أنهم بهذا "يكفرون بالتوراة برمّتها".
وجد الحريديم أنفسهم منذ نشوء كيان الاحتلال والإحلال والاستيطان في مأزقٍ حرج
في هذا الفكر الدينيّ، تمثّل الصهيونية تيّاراً يهدف إلى استبدال اليهودية التاريخية أو التقليدية كلها ومحو خاصّية الشعب اليهودي وتحويله إلى شعبٍ كباقي الشعوب، ما يؤدّي إلى اختفاء "قدسيّته"، فالربُّ وعده بخلاص على شكل معجزةٍ في إطار كونيّ إلهيّ لا في إطار تاريخيّ دنيويّ أرضيّ، مثلما هي الحال لدى سائر شعوب الأرض. بذلك يتحقق الخلاص "على يد الرب بذاته" لا على أيدي الصهاينة. وشبّه الحاخام الآخر، دومب، حكومة "إسرائيل" بالعجل الذهبي، أي الخطيئة الكبرى، معتبراً أنّ مساعداتها المادية التي تعرضها على "طائفة المؤمنين" تهدف إلى اكتساح صفوفهم واحتواء مناهضتهم للمشروع الصهيوني، وهي مماثلةٌ للإغراءات التي يقدّمها الربّ لاختبار إيمان "أبناء شعبه".
أمّا لجهة الأمر الواقع فقد وجد الحريديم أنفسهم منذ نشوء كيان الاحتلال والإحلال والاستيطان في مأزقٍ حرج، إذ يروْن من ناحية أولى أنّ قيام "دولة إسرائيل" هو خطيئة كبرى، ويلاحظون، من ناحية ثانية، على الصعيد الواقعي العملي، أنّ "دولة إسرائيل" هذه تكبر وتزدهر، ومن شأن ذلك أن يُفضي إلى بلبلةٍ وسط مجموعة كبيرة من "طائفة المؤمنين". هنا بدأت الديماغوجية الدينية تفعل فعلها لافتعال "فتوى" مصطنعة تبرّر للحريديم العيش على أرض فلسطين المحتلة، فقد واجهت قيادة المجتمع الحريدي (يعدّ اليوم أكثر من مليون يهودي متديّن في الكيان المحتل) ولا تزال تواجه، منذ نشوء الصهيونية حتى الساعة الراهنة، واقعاً جدلياً ينطوي على تناقضاتٍ عديدةٍ مؤلمة للمجتمع الحريديّ برمّته بين واجب أو حتمية الانصياع لعقيدة ترى في الصهيونية تعبيراً سافراً عن التمرّد على مشيئة الرب، والواقع الزمني لـ"دولة إسرائيل"، حيث ينعم المجتمع الحريدي في كنفها بقوة اجتماعية وسياسية كبيرة جدّاً من شأنها أن تهدّد مصادر القوة العلمانية، فكانت منظمة "أغودات يسرائيل" التي أنشأها الحاخام يتسحاق مئير لفين ورسم طريقها منذ قيام "الدولة"، إذ كان على صلةٍ برؤساء الحركة الصهيونية، وخصوصاً بموشيه شاريت. وقد جاشت مشاعر كثرٍ من أبناء الطوائف الحريدية في فلسطين لدى الإعلان عن إقامة "دولة إسرائيل"، حتى أنّ أعداداً منهم شاركت في أعمال الاحتلال والقتل والتهجير (ليست المرّة الأولى إذاً التي يمكن أن يشارك أبناء الحريديم في الحرب، أو أن يُطلب تجنيدهم كما يحصل اليوم). ولكن كان ثمّة منذ البداية إجماعٌ بين مجموعات الحريديم بكامل فئاتهم حول مسألة عدم تجنيد طلاب المعاهد الدينية، وهنا الإشكالية الكبرى المستمرة والمنفجرة اليوم.
واجهت قيادة المجتمع الحريدي ولا تزال، واقعاً جدلياً ينطوي على تناقضاتٍ عديدةٍ مؤلمة للمجتمع الحريديّ برمّته
حاربت "أغودات يسرائيل" وتنظيمات حريدية أخرى بشراسة لعدم تجنيد طلاب المعاهد الدينية، وتمّ الاتفاق ماضياً بين بن غوريون وقيادة المجتمع الحريدي على عدم تجنيد هؤلاء الطلاب، مقابل دخول يهود حريديم أعضاءً في الكنيست، حيث يمكنهم الحفاظ على "علم التوراة" وعلى التربية والتعليم الحريديين. وكان الحاخام يعقوب روزنهايم الأبرز بين قادة "أغودات يسرائيل" يرى في قيام الدولة اليهودية حدثاً إيجابياً في التاريخ اليهودي "ما فوق التاريخي" وأحد تجلّيات "العناية الإلهية"!
كرّت سبحة الفتاوى الدينية الهمايونيّة غبّ الطلب من نوع أنّ الصهيونية هي بداية الخلاص، وتعبّر عن تصوّر ومفهوم مشيحانيين للدولة، وهي خطوة نحو "التمهيد للخلاص" بحسب الحاخام المتطرّف أبراهام كوك، مع إبقاء التحفّظات حيال علمانية الدولة. أخذت "أغودات يسرائيل" على عاتقها أن تقوم جميع أوجه الحياة الجماهيرية في "دولة إسرائيل" على روح التوراة، لقاء امتيازاتٍ ماليةٍ تقدّمها الدولة إلى المجتمع المتدين "من أجل الحفاظ على حياة توراتية خالصة".
كيان مصطنع ومخترع نشأ بالخرافة ويستمرّ بها، حتى يستردّ أهلُ الأرض الأصلانيّون أرضهم بعد أن يتركها الحريديّون
هنا تبرز معضلة إضافية ما انفكّت مطروحة بقوة: مجتمع الحريديم يتلقّى في الكيان المحتل تقديمات مالية هائلة من جيوب العلمانيين، لقاء: لا شيء! لا يفعل هذا المجتمع الديني المنغلق والمتزمّت سوى دراسة التوراة والتلمود، وله ممثلوه في الكنيست لصبّ زيت العنصريّة وكره الأغيار فوق النار الصهيونية دائمة الاشتعال قتلاً وإبادةً واستيطاناً، وأضحى هو الثقل الوازن في مجتمع الاحتلال، على حساب فئات العلمانيين الذين يدفعون الضرائب والأموال للحريديين (كي يدرسوا له التوراة!) ويَقتلون ويُقتلون في الحروب المتتالية.
إنها صورة الخلاف العميق في المجتمع الصهيوني غير المتجانس، والذي يحمل بذور تفجّراته الكثيرة بين علمانيين ومتدينين، يهود غربيين ويهود شرقيين، يهود بيض ويهود سُمر (الفالاشا)، فاحشي ثراء وفئات مهمّشة، مجنّدين ورافضي تجنيد... إلى ما هنالك من تناقضاتٍ يحفل بها هذا الكيان المصطنع والمخترع، الذي نشأ بالخرافة ويستمرّ بها، حتى يستردّ أهلُ الأرض الأصلانيّون أرضهم بعد أن يتركها الحريديّون (يلوّحون اليوم لقومهم بالرحيل) ويتبعهم الآخرون.