معضلة الهوية في فرنسا
أعادت أعمال العنف والشغب التي شهدتها مدن فرنسية، احتجاجا على مقتل الشاب ذي الأصول الجزائرية نائل المرزوقي برصاص الشرطة، إلى الواجهة الأزمة المجتمعية المستفحلة في فرنسا. وفي الوسع القول إن مقتل نائل لم يكن إلا النقطة التي أفاضت الكأس، فحجم العنف الذي رافق الاحتجاج على الواقعة يشير إلى أن المجتمع الفرنسي بات قاب قوسين أو أدنى من انفجار قد يأتي على الأخضر واليابس، أمام عجز الدولة والنخب عن إيجاد حلول ناجعة لمعضلة الهوية بمختلف تبدّياتها العرقية والدينية والثقافية.
تشكّل ضواحي المدن والحواضر الكبرى مركز هذه المعضلة، بحيث تضمُّ تجمّعات سكانيةً للمهاجرين المتحدرين من دول المغرب العربي وغرب أفريقيا. وشهدت هذه الضواحي، في أكثر من سبعة عقود، تحوّلات ديموغرافية وعُمرانية واجتماعية وثقافية، نتيجة تدفُّق أجيال من المهاجرين العرب والأفارقة بحثا عن لقمة العيش. ومع انصرام السنوات، صارت هذه التجمّعات معزولة عن النسيج المجتمعي الفرنسي، وبدأت تطفو على السطح إشكالات الاندماج الثقافي والاجتماعي والسياسي، خصوصا مع توالي الأزمات الاقتصادية وشحّ الموارد وصعود اليمين المتطرّف الذي يتغذّى، في خطابه الأيديولوجي والسياسي، على كراهية الأجانب والمهاجرين واللاجئين. وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها الحكومات المتعاقبة من أجل فكّ العزلة عن الضواحي وتحسين الأوضاع المعيشية والاجتماعية لساكنتها، إلا أن ذلك لم يُؤتِ أكله بسبب أعطابٍ بنيويةٍ كامنةٍ في المقاربة الفرنسية لقضايا الهجرة والاندماج؛ أعطاب تتجلّى، بالخصوص، في رفض الدولة الفرنسية التعدّديةَ الثقافيةَ وإصرارها على معاملة الأفراد كمواطنين أولا وأخيرا، من دون الأخذ بالاعتبار انتماءاتهم العرقية والدينية والثقافية. بالطبع، لا تتحمّل الدولة المسؤولية وحدها عن معضلة إدماج المهاجرين، فجزء غير يسير منها يقع على عاتق هؤلاء لأسبابٍ يمكن اختزالها في غياب الإرادة لدى الأجيال الجديدة منهم، التي تبدو غير معنية بحلّ التناقض بين انتمائها الديني والثقافي وانتمائها الوطني.
أفرز هذا الوضع انقساما مجتمعيا بات يُنذر بتفجير المجتمع الفرنسي من الداخل في أي لحظة. تزداد حدّة هذا الانقسام يوما بعد يوم، لا سيما أمام النظرة المتعالية، والعنصرية في أحيان كثيرة، والتي يُقابل بها طيف عريض من الفرنسيين سكانَ الضواحي. أخذت هذه النظرة أبعادا أخرى، بعد أن صارت أسلوب عمل داخل جهاز الشرطة؛ يتعلق الأمر بما سمّته المفوضية الأوروبية لمناهضة العنصرية والتعصّب (ECRI)، التابعة لمجلس أوروبا، في تقريرٍ لها صدر السنة الماضية، ''التنميط الإثني والعنصري لدى عناصر الشرطة الفرنسية''. ويبدو أن النخب الفرنسية غير معنيّة بتغيير هذه النظرة في ظل منظومة تربوية تقليدية تكرّس مختلف أشكال التفاوت وتغذّيها. ومع توطّن هذه النظرة أكثر داخل الدولة والمجتمع، تزداد شراسة رفض سكّان الضواحي سياسات الاندماج التي تتبنّاها الحكومات الفرنسية. وهو ما تُظهره مؤشّراتٌ، منها نِسبُ المشاركة المتدنيةُ المسجلةُ في أحيائها في الاستحقاقات الانتخابية المختلفة، في ما يبدو نوعا من العصيان المدني الدّال في مواجهة الدولة والنخب والمجتمع. يُضاف إلى ذلك الاحتقان الاجتماعي المتنامي على خلفية قانون إصلاح التقاعد الذي يرفضه الفرنسيون، والتداعياتُ الاقتصاديةُ للجائحة والحرب الروسية الأوكرانية.
أمام هذا الوضع، يجد الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه في وضع لا يُحسد عليه، فاليسار يُحمله المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع في الضواحي بسبب سياساته المحابية دوائرَ المال والرأسمال والمصارف على حساب الفئات الوسطى والفقيرة والهشّة. في حين لا يتوانى اليمين، بطيْفيه المحافظ والمتطرّف، عن اتهامه بالتراخي الأمني والسياسي في مواجهة أعمال العنف ومحاسبة المسؤولين عنها. وهو ما يزيد من تأزيم الأوضاع سياسيا واجتماعيا.
إذا كانت أعمال العنف والشغب التي شهدتها فرنسا، الأسبوع الماضي، قد خفّت حدتُها، فالمؤكد أن أسبابها لا تزال قائمة، تتصدّرها سياسات الإدماج القاصرةُ التي تصرّ الدولة والنخب على الاستمرار في الأخذ بها، بالرغم من دورها في تغذية الانقسام داخل المجتمع.