معضلة الوزن الزائد
ليست القضيّة أنّ لاعبةَ الأولمبياد زادَ وزنها في سوادِ الليل فاستُبْعدت من تمثيل رياضة الملاكمة المصريّة في باريس، فهذا هراءٌ سخيف لا يستقيم مع العقل ولا يحترم كرامة البنت وخصوصيّتها، ويمثل انتهاكًا لها أمام الرأي العام. وليست الأزمة أنّ اتحاد اللعبة والبعثة المصرية لا يمتلكان ميزاناً صحيحاً لتقدير الحالة الجسمانية للاعبين، ومن ثمّ تقرير مدى لياقتهم وملاءمتهم لاشتراطاتِ البطولات الدوليّة.
المشكلة الأساس، التي تفرّعت عنها كلّ هذه المهازل التي تابعها الناس على شاشاتِ التلفزة ومساحات الميديا المجتمعية المفتوحة على مصاريعها، أنّ ثمّة خللًا في تقدير وزن مصر عموماً، بما يجعلها تبدو وكأنّها ضائعة في دروبِ التاريخ لا تعرف لنفسها وزناً وحجماً حقيقيين، وعوضاً عن ذلك تتخبّط في ظلماتِ التهويل والتهوين، وتمارس نوعاً من المبالغة المرضية في الاتجاهين، فتتصوّر حيناً أنّها عملاق ضخم لكنها تأتي بأفعال وردّاتِ فعل الصغار المُتناهين في الصغر، ثم في حين آخر تتكلّم وتسلك وكأنّها مؤمنة بتفاهتها وضآلتها، فتخدشُ كرامتها بيديها وكأنّها فقدت الذاكرة ولم تعدْ تعي امتدادها الحضاري وعمقها التاريخي والجغرافي.
تنتج هذه الحالة مناخاً مزدحماً بالأكاذيب والأوهام، فتتسرّع في تبرير الفشل والتعثّر بكلامٍ أقرب إلى الدجل والشعوذة، يُرجع الأمور إلى قوى خفيّة تتآمر عليها وتعطّل تقدّمها وتسرق نجاحها المتوهم، ما أدى إلى أن أصبح الجهد المبذول في تسويغ الفشل والسقوط أضعاف المطلوب من جهدٍ لتحقيق النجاح، كما فعل مسؤولو اللعبة المصرية في تبرير استبعاد الرياضية الأولمبية بإرجاع الأمر إلى أسبابٍ فسيولوجية نبتتْ فجأة وعطّلت الإنجاز.
هي، إذن، تفتقد الميزان الصحيح في قياس كلّ شيء، وليس في اختياراتِ اللاعبين فقط، فالمقاييس معوجّة ومُختلة في اختيارات الوزراء والمحافظين، كما جرى، أخيراً، في تعيين وزيرٍ للتعليم مطعون في شهاداته العلمية، وفي محافظين فهموا الحسم والجدية والصرامة في العمل على أنّها قيم ترجمتها الوحيدة إهانة الموظّف العام ودهس كرامته الشخصيّة والعلمية علناً في مشاهد استعراضية هابطة أمام عدسات البثِّ المباشر.
على أنّ الخلل الأكبر والأخطر تجده في ميزان السيادة الوطنية التي بات معيارها الوحيد هو "الفلوس"، المفردة التي تسمعها عشرين مرّة على الأقل كلّما تكلّم المسؤول الأوّل في منظومة الحكم خمس دقائق، حتى صار معنى كرامة الوطن مرتبطًا بالفلوس، وكذا علاقاته الخارجية مع الدول، بحيث لا يبقى العدو عدوًّا لو دفع ودافع عن النظام الحاكم، وكانت سبباً في تعويمه، اقتصاديًاً وسياسيًاً، ولا يبقى الشقيق شقيقاً لو استضافَ معارضًا للحكم، وتجد التجسيد الأوضح لذلك في العلاقة مع الكيان الصهيوني الداعم للحكم بصفقاتِ الغاز الطبيعي وسكوته عن تحصيل الفواتير، أو حصوله عليها في صورةِ مواقف سياسيّة لا تعبّر بحالٍ من الأحوال عن جوهر ووزن وحجم وقيمة هذا البلد، تاريخيًاً وجغرافيًاً وحضاريًاً، أو يحصّل قيمتها سكوتاً والتزاماً بالصمت العاجز أمام انتهاكاتٍ للحدود الجغرافية والسيادة على المعابر والأجواء، وافتراس آمن وميسّر لأرواح أكثر من أربعين ألف شهيد من الأشقاء الفلسطينيين.
على الجانب الآخر، أدّى استخدام "الفلوس" وحدة قياس وحيدةً لنهضةِ الأوطان، إلى اللجوء لسياساتٍ اقتصاديةٍ وتمويليةٍ تجرح الكرامة الوطنية بالاستدانة من دولٍ صغيرةٍ ميسورة، وبيع الأراضي العامة والأصول الوطنية لها، فباتتْ تسلك وكأنّها تمتلك حصّة من الوطن، وبالتالي، حصّة في القرار الوطني، ناهيك عن الاستدانةِ المتواصلة، والتي باتتْ تقترب من كونها ديانة مقدّسة، تنحر على عتبات "معابدها" المانحة الأراضي والأصول وقدرة الطبقات الأكثر فقرًا على الحياة الكريمة، فضلًا عن تحويل الجنين في بطن أمه، أو في عقل شابين يحلمان بزواج وأسرة في المستقبل، إلى مواطنٍ مُثقل بالديون من قبل أن يأتي إلى هذا العالم.
انعكس هذا الخلل البنيوي في ميزان العلاقة بين الحكومة والمواطن، والذي بات بنظرها "الزبون" الذي عليه أن يدفع للحكومة ثمن وجوده في الحياة، ولا يشكو أو يحتج على ما تفعله في مؤشّر أسعار الخدمات الأساسية المُعترف بها حقّاً أصليًاً للمواطن في أيّ مكان في العالم، فضلاً عن تحميله المسؤولية عن الفشل والإخفاق، واتهامه طوال الوقت بأنّه العقبة في طريق الدولة، ويكون مطلوباً منه أن يهجر أرضه ويترك بيته، كما في سيناء وفي الوراق، لكي تبيعها الحكومة للمستثمرين والمانحين الأجانب مقابل الفلوس، تلك القيمة العليا.
أسوأ من ذلك أن تُوضع الحقوق والحريّات العامة في ثلاجةِ الموتى، لا حقّ في التظاهر، لا حقّ في الأنين على صفحة تواصل اجتماعي، لا تعارض الحكومة أو تشاكسها بنكتةٍ ساخرة أو كاريكاتير سياسي، وإلا فالزنزانة بانتظارك، وحالة الفنان الطبيب أشرف عمر أمامنا تقول بوضوح إنّ الكاريكاتير يهدّد أمن الوطن.
هو في نهاية المطاف الخلل الأخلاقي والوجودي الذي يجعل المصلحة الماديّة، فقط، هي المعيار، ولتذهب الاعتبارات الاجتماعية والإنسانية والوطنية إلى الجحيم.