مع المنصف السويسي

13 نوفمبر 2016

"البلاد طلبت أهلها" .. عمل فلسطيني للمنصف المرزوقي

+ الخط -
أعاد نبأ وفاة المسرحي التونسي الكبير، المنصف السويسي (1944)، الأسبوع الماضي، من ذاكرة صاحب هذه الكلمات، تلك الأسابيع من العام 1989 التي أقام فيها الراحل في عمّان، لإخراج مسرحية الصديق، الشاعر والمسرحي الفلسطيني الراحل، عبد اللطيف عقل، "البلاد طلبت أهلها"، من بطولة النجم زهير النوباني (وإنتاجه). كان لافتاً أن فناناً من تونس هو الذي يُخرج هذا العمل، الفلسطيني اللغة واللهجة. وأظنني سألت المنصف عن هذا الأمر في زيارتي له في شقته المستأجرة في تلك الأثناء في عمّان، في حديثٍ مطوّل معه، فبسط لي فهمه للمسرح ووظيفته، عندما يكون إنسانياً، وعندما يكون عربيّ المضمون والهموم. كنا نعرف أن السويسي هو مخرج المسرحية الكويتية الذائعة "باي باي لندن" (1981)، لكاتبها المصري نبيل بدران، والتي ساهمت كثيراً في صناعة شهرة نجمها، عبد الحسين عبد الرضا، لدى الجمهور العربي العريض. وكانت مسرحيةً حسبت تجارية، غير أنها اتّصفت بأنها جريئةٌ في انتقادها ونقدها، واستعانت في ذلك بالهزل والكوميديا. أحببنا "البلاد طلبت أهلها" على الخشبة، بالروحيّة الفكاهية البالغة السخرية من الأوضاع العربية (والله زمان!). كانت عن الخراب العربي والفلسطيني الذي ساق فلسطين إلى الاحتلال، وأخذ أهلها إلى اللجوء والمنافي. نجحت عروض المسرحية أسابيع في مسرح قصر الثقافة في عمّان، (وعرضت في غير بلد عربي) وبدا أن حبّ المنصف السويسي النصّ الذي كان بين يديه كان العامل الأوضح في هذا النجاح، وهو الحب الذي دلَّ على أن في الوسع أن يصنع مسرحٌ يتقن المعادلة بين الفنية العالية والجاذبية الجماهيرية جمهوراً عريضاً وصاحب ذائقة. 

مخرجٌ تونسيٌّ يبدع، فنياً وجماهيرياً، في إنجازه عملاً فلسطينياً جداً على الخشبة، وقبله عملاً كويتياً جدّاً، ولذلك تستحق تجربته "العربية" الالتفات والتقدير، لا سيما وأنها تعزّزت أيضاً في العام 1988، عندما قدّم في القاهرة وبغداد وغيرهما "واقدساه" (بطولة محمود ياسين)، لكاتبها يسري الجندي، وكانت من إنتاج اتحاد الفنانين العرب. وقد قال المنصف السويسي إن تلك المسرحية كانت بمثابة التحية للمقاومة الفلسطينية. ويمكن القول إن المسار "العربي" للراحل الكبير تواصل في إخراجه ثلاثة أعمال مسرحية لحاكم الشارقة، الشيخ سلطان القاسمي، وأدّى أدوارها ممثلون من دولة الإمارات وفنانون عرب.
هذه الأعمال العربية، الكويتية والفلسطينية والإماراتية، والتي شوهدت على خشباتٍ عديدةٍ في غير عاصمةٍ عربية، هي من بين نحو ستين عملاً مسرحياً أنجزها السويسي، في نحو خمسين عاماً، لكثيرٍ منها مطرحها في المنجز المسرحي التونسي والعربي، وكانت عن نصوص لكتابٍ عرب وعالميين، واتّصفت عموماً باللمسة الاحتفالية، الشعبية إلى حدّ ما، البعيدة عن النزوع التجريبي، وخصوصاً المُفرط منه. وقد حرص الراحل على أن يحقّق مسرحُه علاقةً متبادلةً بين الممثل والجمهور، تقوم على شيءٍ من التفاعل، من دون التورّط في الإسفاف والتهريج والتفاهة. وفي سيرة المنصف السويسي أنه أيضاً كان مؤسّساً لفرق مسرحية، إحداها الفرقة المحترفة لمدينة الكاف (شمال تونس)، وكانت منصّة انطلاق أعماله الأولى، وساهم في تأسيس فرقة مسرح الجنوب في قفصة، ثم فرقة مدينة القيروان في الوسط. وأسّس مسرح البحر الأبيض المتوسط، وشارك في تأسيس المسرح الوطني في قطر، ومسرح الطليعة في الكويت، والمسرح الوطني في الإمارات.
ظلّ المنصف السويسي، في نشاطاته هذه (وغيرها) مجنوناً بالمسرح، كما وصفه، عن حق، عارفوه ومحبوه وتلاميذه الكثيرون. وفي لقاءاتٍ لي معه، كان يبدو لي فناناً يقيم على ولع بالمسرح غير عادي، وعلى احترام مؤكّد لمشاهدي المسرح. وكم كان مؤسفاً من صحيفة عربية زميلة أنها أخذت عليه انحيازه، بعد الثورة في بلاده، للرئيس المنصف المرزوقي ولحركة النهضة وللربيع العربي. أظنه في هذا الأمر كان منسجماً مع قناعاته الفكرية، ومع عروبته التي تقع قضية فلسطين في قلبها. وأكتب هذه السطور، وباقيةٌ في أسماعي صدى صيحة زهير النوباني على "الرّكح" (بلغة إخواننا التوانسة)، "البلاد طلبت أهلها"... كانت صيحة المنصف السويسي وعبد اللطيف عقل رحمهما الله.
دلالات
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.