مع "بطريرك الشعب ..."
كان بديعاً أن نسمع من البطريرك ميشيل صباح، إن على كل فلسطينيٍّ أن يحمل كل فلسطين فوق ظهره، وإن على الفلسطينيين، على الرغم من كل شيء، أن يتحلّوا بالأمل.. قال هذا لنا، نحن من كنا بصحبته، جمهورا عاما في "زوم"، لمّا تجاوبنا مع دعوةٍ رائقةٍ إلى جلسةٍ (أو فعالية؟) نظّمها "ملتقى فلسطين"، لمشاهدة فيلم "بطريرك الشعب.. محطات مع البطريرك ميشيل صباح"، مع مخرجه محمد العطّار، ومنتجته ليلى حبش، فكانت فرصةً ثمينةً للتناجي مع صاحب الغبطة، ليس فقط عمّا كانه وأدّاه، وعما رأيناه في الفيلم معه وعنه، وإنما أيضاً عن راهنٍ فلسطينيٍّ ركيك، وعن أحوالٍ عامةٍ رديئةٍ، وعما يمكن أن يصنعه كل واحدٍ منا، وعن الذين في العالم معنا، نحن الفلسطينيين والعرب، وعن الذين ليسوا معنا، ومفيدٌ، بل لازمٌ، أن نصل إليهم، ليسمعوا سرديّتنا، ليعرفوا عن ظلمٍ يحدُث في فلسطين، واحتلال عنصري وقاتلٍ فيها. كانت فرصةً أن نسمع بطريرك القدس السابق للاتين، الأب الإنسان، يقول، في فيلمٍ متقنٍ مشهدياً وصورة ومضموناً، إيقاعاً ورسالةً، إن "في القدس، مدينتنا ومدينتك المقدّسة، ما زالت الخطايا تملأها، والحرب، والموت والكراهية.. اللهم بدّل كل هذا، وأعد القداسة إلى مدينتك، واملأها بحبك.. آمين". وأيضاً "القدس اليوم ليست مدينةً مقدّسة، بل مدينة كراهية". صوت البطريرك القائد الشجاع الذي حاول المحتلّون إبعاده، وطالما ضيّقوا عليه، نسمعه والمشهد قدّامنا، في فيلم محمد العطّار، عناصر من جنود الاحتلال يمنعون الناس من التوجّه إلى القدس ومساجدها وكنائسها، ويعاملونهم بغلظة وقسوة.
تنوّعت أسئلتنا ومداخلاتنا، نحن الحضور، من بلاد كثيرة نقيم فيها، لم يجمعنا "زوم"، وإنما الإجلال الغزير الذي نمحضه لقائد وطني فلسطيني، لا يحسب نفسه رجلاً محارباً، وإنما رجل صلاة، يحوّل كل شيء إلى صلاة، كما يعرّف نفسه، يؤمن بأن أبناء وطنه يجب أن يكونوا يوماً أسياداً، على ما يقول في الفيلم القصير (27 دقيقة)، الوفير المعاني والمضامين. وبإدارة الكاتب والباحث، خالد الحروب، الحوار والنقاش، والدردشة والتباسط، مع أبونا والمخرج والمنتجة، ومع من استوضح أو عقّب منّا، فأمكن أن نُحرز مكسباً خاصاً، موجزُه أن في وسع الفلسطينيين أن يصنعوا الكثير من النافع والمجدي، بدلاً من لعن الشعور بالفشل الذي صار متوطّناً فيهم. مثلاً، أن يُنجز الموهوبون، وأصحاب الكفاءة الفنية، أفلاماً ومنتجاتٍ بصريةً، من جنس ما يفعله محمد العطّار. وأن يتقدّم مخلصون من أهل القدرة بمبادراتٍ كالتي تؤدّيها ليلى حبش، من قبيل الاحتفاء بميشيل صباح، وتعريف أجيال الفلسطينيين بنضاله وفكره، بإنتاج فيلم وثائقي سينمائي، قويّ في مشهدياته ومنطوقه. وكذلك أن يقاوم مثقفون فلسطينيون، تقدّميون ديمقراطيون، الإحباط الشنيع الذي يطوّق المشهد العام، بتكوين تجمّعٍ حرٍّ اسمه ملتقى فلسطين، تأتلفُ نخبتُه على الإيمان بالتعدّدية، وبمشروعٍ وطنيٍّ فلسطينيٍّ ينهض على تثمير المشتركات والجوامع الوطنية وما أكثرها. وعندما يختار الملتقى، من أنشطته المنتظمة والمتنوعة جلسةً جذّابةً، كالتي كانت الاثنين الماضي، مع فلسطينيٍّ استثنائي من قماشة ميشيل صباح، ومشاهدة عمل سينمائي عنه، فإن ضُمّةً ملمومةً من جزيل التقدير والشكر تصير مستحقةً له.
يقول أستاذ اللغة العربية، وأحد فقهائها، الدكتور ميشيل صباح (87 عاماً)، في الفيلم إنه "رجل دين مسيحي، ومسؤول عن رعيّة، ومسؤولية الراعي المسيحي شاملة للإنسان. هناك وضع ظلم واحتلال، وهذا يعني أنني مسؤول". تسمع هذا وكثيرا غيره مما يفيض سماحةً وثقةً وعلواً وطنياً وسموا إنسانيا، فيما أصوات أجراس الكنائس وترانيم المصلين وأنغام دينية تظلل المشاهد أمامك من فلسطين الرحبة، من ناسها وسهولها وحقولها، حيث عيناك مشدودتان، إلى القدس وأسلاك شائكة وجنود صهاينة. وفي الأثناء تتوالى مقاطع من سيرة البطريرك موثّقة من أرشيفٍ محميٍّ من النسيان، منذ ما قبل تنصيب بابا الفاتيكان له في 1987، إبّان احتدام انتفاضةٍ فلسطينيةٍ كبرى، بطريرك القدس، فيكون أول فلسطيني بتولى هذه المهمة والرتبة، إلى لحظةٍ راهنة، لمّا كان يقول البطريرك يقول ما يقول مما ينطق به الوجدان، وتشفّ عنه الروح، وينبض به القلب، ويهجس به العقل، وقدّام ناظريه كثيرٌ من القدس، في غضون كورونا وفيروس الاحتلال البغيض. يقول "إن لا خلاص لنا إلا في شعبنا"، ويهجو الانقسام الفلسطيني ويراه فسادا. .. شكراً ملتقى فلسطين، شكراً ليلى حبش، شكراً محمد العطار، شكراً أبونا.