مقاهٍ ودرّاجات هوائية في الطريق
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
"السيكل كلّه فايدة". ... سمعت هذه العبارة في المذياع، وأنا في طريقي إلى مقهى العمل، من طالب في كلّية الطبّ بجامعة السلطان قابوس، وسبب اللقاء معه ذهابه إلى الجامعة بدرّاجة هوائية (سيكل)، كما تُسمَّى في اللسان العُماني الدارج.
تخلّى الشابّ عن خجله، وقرّر أن يقود الدرّاجة بحرّية. كانت البداية مع بشائر الفجر الأولى، لأن عدد المارّين يكون أقلّ. ومع تقدّم الوقت، صار الأمر معتاداً أن يرى الناس شابّاً يخوض الهواء بدرّاجته الهوائية، حراً طليقاً وسط حصار الزحمة. بل فوق ذلك، وجد مُشجّعين، ومُغرّدين، ثمّ أجرى لقاءً إذاعياً أبان فيه عن روح متفائلة. وربّما نشهد في غضون أيام مُقبِلة قافلةً من سائقي الدرّاجات الهوائية، يجوبون الشوارع بحرّية، بل منهم من سيذهب (ولم لا؟) إلى عمله بهذه الواسطة التنقّلية الرشيقة. وأيضاً هناك ظاهرةٌ أخرى جديدة في مسقط، وهي المقاهي التي يُديرها شبّان عُمانيون، تُقدّم القهوة والشاي بأنواعهما (وقبائلهما؛ البرازيلية والتركية والسيلانية)، هي كذلك تصنع حتّى "الكيك" ضمن مواصفات خاصّة. مثلاً في مقهى ماي سبيس، يصنعون بأنفسهم "كيك" يُطلقون عليه "كيتو" مصنوعاً من طحين أسمر يحاكي "الخبيصة العُمانية". وهناك آخر مصنوع من التمر العُماني. وتوجد في المقهى مكتبةٌ تجد فيها رواياتٍ حديثة، ومعاجمَ، إلى جانب مُجلَّدات في التراث العربي الأدبي. ستجد كذلك أنّ الشاب العُماني، الذي يُقدّم إليك القهوة، يرتدي لباساً عصرياً. ظاهرةٌ أن يعتمد الشابّ العُماني على نفسه في كلّ شيء، ولا يخجل من ممارسة عمله الشريف، يترك انطباعاً جميلاً مفاده أنّ الشباب بدأوا يتخفَّفون ممّا سُمّي النفور من الأعمال البسيطة. هناك كذلك بعض المقاهي، التي بدأت تنتشر، تُشغِّلُ الطلبةَ فيها بأوقات مُستقطَعة، فيعتمد الطالب قدر الإمكان على نفسه في تدبّر مصروفِ جيبه حتّى يتخرّج ويدخل سوقَ العمل، ويكون بذلك قد جرّب مجموعةً من الأعمال، واكتسب خبرات عديدة في الحياة، وكسر حدود الخجل من العمل البسيط، واليدوي بأنواعه.
هناك ذاكرةٌ طويلةٌ للمقاهي وروَّادها. شخصياً، أنا من مُحبّي المقاهي، سواء في الخوض والحيل أو في المركز التجاري الكبير في المعبيلة، ولكنّي لم أجد شباباً عُمانيين يعملون فيها، إلا في هذه الفترة. وأصبحت أُراقبهم من بعيد وهم ينظّفون بدقّة كلّ شيء، بل يحرصون على أن يكون المكان ناصعاً وأنيقاً، وفي جميع الأوقات. يفتحون المقاهي في الصباح الباكر ويغلقونها قبل منتصف الليل بنصف ساعة تقريباً. لذلك، يظلّ الجالس وهو يقضي معظم مشاغله في هدوء وعزلة، خصوصاً إذا كان يقرأ كتاباً أو يعالج أمراً مكتبياً يخصّه، كذلك فإنّ العديد من الطلبة يأتون لكي ينجزوا فروضهم. المقاهي كذلك تكون مكاناً مثالياً للقاءات الأصدقاء، وتبادل الأحاديث، وللعزلة والتأمّل .
كانت "سبلة" القرية التي تكون عادة خارج البيوت أو حولها، همزةَ وصل بين الأُسر، بعضها ببعض أو بينها وبين من يفِد عليها من خارج المحيط. لذلك، كانت تعدّ ساحة مفتوحة لتبادل الأخبار والاستراحة والقراءة. وعادة ما تكون هذه "السّبلات" أو "السبل" مزوَّدةً بالكتب والدفاتر، التي تحتوي على أشعار مُتفرّقة تجد بينها، في الأغلب، نونيةَ أبي مُسلّم البهلاني، إلى جانب أشعار كبار شعراء العصر العباسي كالمتنبي وأبي تمّام. في وقتنا الحالي، حلّت المقاهي العامة محل "سبلات" القُرى. والمقهى يكون، في العادة، ذا طابعٍ مدني، مُزوَّدٍ بكراسٍ وإنترنت، ولا يتعارف مرتادوه بالضرورة إلا إذا كانوا قد ضرب بعضهم لبعض مواعيدَ مسبقةً فيه. فهناك من يجلس وأمامه كتاب يقرأه أو جهاز حاسوب يتصفّحه، وهناك من يجلس مع رفيق يتبادل معه حديثاً (يكون خافتاً في الغالب) لا يتجاوز دائرةَ الطاولة التي يجلسان إليها.
في بلدان عربية كثيرة زرتُها أو أقمتُ فيها، يُشكّل المقهى بيتاً ثانياً للرجال. وأتذكّر هنا المغرب وتونس، فثقافةُ المقاهي تُشكّل أساساً من أساسات بناء العمران، فلا يمكن مثلاً أن تجد حيّاً شعبياً لا توجد فيه عشرات المقاهي، وهي جميعها غاصّة بالمرتادين، خصوصاً في أوقات مباريات كرة القدم.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية