مكتبة الحلاقين
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
تنتشر محلات الحلاقة في مسقط. وليس من المبالغة القول إنه يمكنك أن تجد حلاقا بين حلاق وآخر. معظم الحلاقين هنود، ولكن الباحث عن أناقة زائدة وتقليعات حديثة سيجد ما يمكن تسميتها مدارس في الحلاقة، كما الحال عند الحلاقين الأتراك والتونسيين والفيليبينيين. هناك كذلك الحلاقون الباكستانيون، الذين تتميز محلاتهم بلوحات دينية وخطوط كبيرة لآيات قرآنية. إلى جانب مسابيح خرزية يتدلى بعضها من المرايا. تعرف محلات الحلاقة الباكستانية كذلك بأنواع صباغة شعر الشيب، وضمنها الحناء بلونيه الأحمر والبني الغامق الذاهب إلى السواد الطبيعي. ومما يستوقفني عند الحلاقين وجود طاولة أمام كراسي الانتظار عامرة بالكتب والمجلات. عادةً، أذهب إلى الحلاق من أجل شعر الرأس، وإذا كنتُ مع حلاق جيد، فلا بد أن تنتظر، لأنه يأخذ راحته مع الزبون الذي أسلم له رأسه أو رقبته. تقوم سمعة الحلاق عادة على تلك الدقة والحرص، وما يتبع ذلك من بطء زمني. ولكن ذلك الوقت مهما طال فإنه، بالنسبة إلي على الأقل، سيغدو قصيرا، بسبب هذه الحيلة المتعلقة بأكداس الكتب والمجلات المتوفرة فوق الطاولة. والممتع في أمرها أنها قديمة، بل تعود بعض المجلات إلى عقود خلت. يعيدك الحلاق هنا، من دون قصد، إلى زمن ماض وإلى فضاءات الحنين. أعداد قديمة من مجلات العربي وماجد وسيدتي وزهرة الخليج والمجلة، حيث يمكنك أن تجد في خلفية أحد الأعداد مقالا للطيب صالح، أو روايات عبير بأغلفة باهتة أو بدون أغلفة.
في أوقات استثنائية، يكون لهذه الحمولة من الكتب مبرّر يصل إلى حد الضرورة، حيث يمكن أن يطول وقت انتظار الدور، خصوصا في المناسبات الاجتماعية والدينية. وفي آخر يوم من إجازة عامة أو في الليلتين الأخيرتين من إجازة رسمية طويلة، أو اليوم التالي من الإجازة الأسبوعية. ويمكن، في أيام انتظار العيدين، الأضحى والفطر، أن يظل الحلاق يعمل حتى وقت متأخر من الليل، بسبب زحمة الزبائن.
وجدت، مرة، في محل حلاقة هندي كتابا لأنيس منصور "أرواح وأشباح"، استغرقت في قراءته، ورغبت أن لا يأتي دوري قريبا، حيث تميزت مقالات منصور في هذا الكتاب بالطول، ولكنه ذلك الطول الذي يمتلك فيه الكاتب حرية الانتقال من موضوع إلى آخر، قبل أن يعود، في النهاية، إلى موضوعه الأصلي. يشبه الأمر، على مستوى الحكي، التقنية المبهرة لكتاب "ألف ليلة وليلة"، حيث تولد حكايات عديدة من رحم الحكاية الأمن قبل أن تعود إليها في النهاية لتختمها.
يقترب أنيس منصور في هذا الكتاب من ثرثرة الحلاقين الذين طالما سمعنا عنها. ولكن يبدو أن الحلاقين الهنود استعاضوا عن الثرثرة، بسبب لسانهم غير العربي، بأن نثروا كتبا ومجلات قديمة تنشط الذاكرة، ووضعوها أمام كراسي المتحينين أدوارهم في الحلاقة.. ويتحدّث أنيس منصور، في أحد مقالات كتابه هذا، عن الصحف البريطانية في يوم وفاة الملكة فكتوريا، وإن كان انطلق من لحظة الجنازة ثم عاد إليها في نهاية المقالة، إلا أن القارئ يقف أمام كم عجيب من الأحداث الجانبية التي تزامنت مع هذا الحدث الكبير.
يمكن أن تجد كذلك على طاولة الحلاق الشبيهة بجراب العطار، بسبب تنوعها وتنافر مواضيعها وتباعد أزمنتها، كتبا ومحلات إنكليزية وهندية وأورية، ولا علاقة لأي منها، بلا استثناء تقريبا، بالأيام التي نعيش. كثير منها قديم بصورة واضحة، وهذا ربما موضع قيمتها. تمارس محلات الحلاقة التدوير الجميل للكتب والمجلات بهذه الطريقة، حيث يحصل الحلاقون عادة على هذه الكتب والمجلات من الطرقات أو من براميل مخلفات البيوت. شخصيا، وجدت ذات مطر وريح رواية أصلية لتشارلز ديكنز مكتوبة بالإنكليزية فائضة عن برميل زبالة الحي، عنوانها "Great Expectation".
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية