مكتبة نزيه أبو نضال
لمّا استفظع الشاب العشريني، نزيه أبو نضال (أو غطّاس صويص باسمه الحقيقي)، بقاءَه، صيف العام 1967، طالبا في جامعة القاهرة، فيما بقية فلسطين احتلته إسرائيل للتوّ، سارع إلى تجميع ثمن تذكرة سفرٍ إلى سورية، ليلتحق بمعسكرٍ للثورة الفلسطينية هناك. لم يحفل بأسابيع تبقّت على امتحانات سنته النهائية. وإلى "عفشه" المتواضِع، وراديو ترانزستور، وأغراضٍ شخصية، باع أيضا كتبا كانت لديه، ليُكمل ثمن التذكرة إلى دمشق من دون عودة. (قدّم الامتحانات بعد خمس سنوات، وأحرز الشهادة الجامعية). ثم لمّا غادر بيروت، في الأول من سبتمبر/ أيلول 1982، على باخرةٍ، باتجاه ميناء طرطوس، تنقل مقاتلين وقيادات وكوادر من منظمة التحرير (ونادية لطفي بصحبتهم)، إبّان الاجتياح الإسرائيلي، كان يحمل حقيبةً صغيرةً فيها ملابس وحاجيات وستة كتب (بينها ثلاثة لنزيه نفسه)، من مجموع مكتبةٍ فيها آلاف الكتب، أهداها لاحقا، بواسطة صديقٍ، لمكتبة الطائفة الدرزية. ثم في الأسبوع الماضي، يُشهر نزيه أبو نضال (1943)، الكاتب والناقد والباحث، والمناضل من قبل ومن بعد، من منزلِه في عمّان، أي في موطنه، عرضَه بيع مكتبته التي تضمّ أكثر من ثلاثة آلاف كتاب، "لضيق ذات اليد". في حدثٍ استفظعه ناسٌ بلا عدد، فهبّ كثيرون، على معرفةٍ بصديقنا المحترم، وآخرون لا يعرفهم، إلى الاتصال به، متضامنين، مستنكرين أن كاتبا أردنيا في بلده يُكابد في أمور معيشته. بل إن "مجهولا" وضع مبلغا كبيرا في تصرّف صاحبنا، وقال "لن تنزل مكتبة نزيه أبو نضال من مكانها ما دمتُ حيا". ونشطت حملةٌ، في "السوشيال ميديا"، في ساعات، من أجل حماية المكتبة، أي حماية صاحبها. وفي الأثناء، تدخّل من تدخّل لدى الرئاسة الفلسطينية، فكان القرار بتأمين مخصّصٍ شهريٍّ للكاتب المعروف الذي انقطع عنه هذا المخصّص أربعين عاما، قضاها في "مناطحة الصخر" لتأمين شروط الحياة لعائلته، على ما كتب صادقا. ونزيه، فيما أعرف، لم يزاول غير الكتابة والعمل في الثقافة، وهو الذي "يفتقد عملا دائما لا تؤمّنه إلا وظيفة حكومية مستحيلة لأردنيٍّ منتمٍ للثورة الفلسطينية، وإن كانت هذه "الثورة" ترفضه".
صحّ ما كتبه صاحب "تمرّد الأنثى .." أنه كان لإعلانه ذاك وقع الصاعقة على كوادر حركة فتح، وعلى مئات المثقفين العرب. وأظنها المرّة الأولى التي يجهر فيها كاتبٌ في الأردن على الملأ بأمرٍ كهذا، فالأخبار التي توالت، في السنوات القليلة الماضية، كانت عن مثقفين وكتّاب عراقيين باعوا مكتباتهم الخاصة بسبب العوز، أمام الغلاء وفقدان الوظائف وانهيار مؤسسات إعلامية وثقافية في بلدهم. الأمر الذي صار تاليا في اليمن، فالأخبار مثل هذه لم تتوقف. وقد شابه كاتبٌ يمنيٌّ بيعَه مكتبته بتخلّي الأب عن ابنه. وقال تاجر كتبٍ مستعملةٍ في صنعاء إن مثقفين يبكون لحظة تخلّيهم عن كتبهم لبيعها. وذاع مرةً إن كاتبا جزائريا عرض مكتبته للبيع، على قلّة ما فيها، ليستعين بثمنها لتأمين علاج ابنته في فرنسا، غير أن حملة تضامن معه أنقذت المكتبة. وقبل هؤلاء وأولئك، ومواساةً للفدائي القديم، كاتب حدائق الأنثى .."، باع عباس محمود العقاد مرّتين مكتبته، لمّا غادر مدينته أسوان إلى الإقامة في القاهرة، لتأمين احتياجاته العاجلة، ثم لكي يعيش، وهو الزاهد الذي كانت الكتابة حياته.
إذن، لم يجترح الكاتب النزيه فعلاً غير مسبوق لمّا طرح ثلاثة آلاف كتاب خاصّته لمن يشتري. وأرجّح، أنا الذي لم أتعرّف إلى مكتبته، وأعتزّ بأني أعرف صاحبها الكاتب الدافئ، والإنسان الباسم، أنها غنيةٌ بألوان المعرفة، سيّما الأدب والتاريخ والفلسفة. وإذا كان طيّبا أنها نجت من البيع (كم دينارا أردنيا كانت ستأتي به في هذا الزمن الرخيص؟)، فإن المأمول (أو المشتهى) أن يُقرأ جيدا ما أعلنه أبو نضال إن رمزية مكتبته إذا كانت قد انتصرت، فإن كتّابا عديدين "على طرفي النهر المقدّس" (في فلسطين والأردن) بأمسّ الحاجة للدعم".
يُخبرنا كاتب "الساخرون" في مذكّراته "... من أوراق ثورة مغدورة" (حاوره زياد منى، شركة قدمس للنشر والتوزيع، بيروت، 2013)، بأنه لمّا صحا على الدنيا وجدَ في بيت أسرته مكتبةً، هي التي أخذته إلى طريق المعرفة. وأختم هنا بأن قصة مكتبته الناجية أخذتنا إلى سويداء حادّة في جوانحنا، فمن شديد الوضاعة، في هذا الزمن البائس، أن يغالب نزيه ابو نضال "ضيق ذات اليد".