مليارات بايدن الوشيكة للفلسطينيين
كتبت مقالةً قبل سبع سنوات بعنوان "مليارات كيري"، نقدتُ فيها الخطةَ الأميركية الاقتصادية للأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي تضمنت وعدًا من وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، في إدارة أوباما - بايدن للفلسطينيين، بتلقي ما بين 4 مليارات و11 مليار دولار من خلال "المبادرة الاقتصادية الفلسطينية".
هدفت الخطة إلى تطوير اقتصاد الضفة الغربية وقطاع غزة على مدار ثلاث سنوات، متطلبا سابقا للتسوية السياسية التي ستنهي "الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي"، ووعدت بزيادة الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 50% على مدى الأعوام الثلاثة، وتخفيض معدل البطالة بمقدار الثلثين، ومضاعفة متوسط أجور الفلسطينيين. وصف كيري الخطة حينها بأنها "نموذج جديد للتنمية"، بينما وصفها ممثل اللجنة الرباعية حينئذ، توني بلير، بأنها خطة "غير مسبوقة". وقد حذّرتُ حينها من استحالة تحقيقها، ومن تصميمها الإشكالي، وتداعياتها المضرّة، ومنطقها الاقتصادي المعيب. وحذرتُ أيضًا من أن "السلام الاقتصادي" لا يمكنه شراء "السلام السياسي"، وأن اتخاذه شرطًا مسبقًا للازدهار معيبٌ بالأساس، لغياب الأُفق السياسي. وبالفعل، غادر كيري (وإدارة أوباما - بايدن) البيت الأبيض، وبقيت مليارات الدولارات في واشنطن العاصمة، وفشلت الخطة في تحقيق أي نتائج ملموسة ممّا تصورته ووعدت به.
لم تكن هذه النتيجةُ مفاجئةً أو مستغربة، لأنها كانت مؤطرةً ضمن نهج/ نموذجٍ فاشلٍ من التدخل الخارجي، تُمليه حسابات الوسيط الأميركي غير النزيه وحليفه الإسرائيلي ومعاييرهما. والآن، يتحضر جو بايدن للعودة إلى البيت الأبيض رئيسا، والخشية أن التحذيرات أعلاه لا تزال قائمة، مع فارق التسمية من مليارات كيري إلى مليارات بايدن. عودة "القديم المعتاد" لا تُبشِّر بالسلام أو العدالة، ناهيك عن الحرية والمساواة للفلسطينيين.
لن تستطيع إدارة بايدن الحيادَ عن مقاربتي "السلام الاقتصادي" و"عائدات السلام" المتجذّرتين في السياسة الأميركية تُجاه الفلسطينيين. ولذلك، لن يكون مستغربًا إذا اختارت إدارته المساعدات الأميركية مدخلا لاستئناف العمل مع السلطة الفلسطينية، بعد سنوات التهميش والإهمال في عهد ترامب. وبذلك سوف يسلك بايدن دربًا سلكه أسلافُه كُلهم وفشلوا.
يقتضي استئناف المساعدات للسلطة الفلسطينية من إدارة بايدن إلغاء قوانين وتشريعات موضوعة في عهد ترامب، أو الالتفاف عليها
استحدثت إدارة كارتر "إطار السلام الاقتصادي". وفي عهد ريغان جاءت "مبادرة نوعية الحياة". وفي عهد كلينتون ظهرت فكرة "عوائد السلام"، وبعدها جاءت إدارة بوش بمبادرة "خريطة الطريق من أجل السلام" ذات التركيز الاقتصادي المدفوع بقطاع الأمن. وحَذَت إدارةُ ترامب حذو تلك الإدارات السابقة، وطرحت خطة "السلام من أجل الازدهار" القائمة على المنطق الاقتصادي المعيب نفسه. ولهذا، ليس هناك ما يدفعُ رئاسةَ بايدن لكي تَحيد عن مقاربة "السلام الاقتصادي" في السياسة الأميركية تجاه فلسطين. وكل ما عليها فعله ابتداع "مسمّى" جديدٍ أو "مرادف" لخطط "السلام الاقتصادي" و"عوائد السلام" المذكورة آنفًا. وعليها أيضًا أن تبتكرَ "نموذجًا هجينًا" ينطوي على تعديلٍ طفيف، بمعنى أن تدخلها لن يقتصر، على الأرجح، على تقديم المساعدات المشروطة، بل سيشمل أيضًا الاستثمار المشروط. ونموذج "المساعدات - الاستثمارات" الهجين هذا يتماشى في ضوء اتفاقات أبراهام مع مسار "التطبيع الإقليمي" بين إسرائيل وبعض الدول العربية.
وبناءً على ما سَبق، يقتضي استئناف المساعدات للسلطة الفلسطينية من إدارة بايدن إلغاء عددٍ من القوانين والتشريعات الموضوعة في عهد ترامب، أو الالتفاف عليها، ولكن ذلك لن يشكِّلَ عقبةً كُبرى، لأن الزخم السياسي سوف يهيمن على الحيز التشريعي والقانوني.
وختامًا، لن تمانعَ السلطةُ الفلسطينية، متلقيةً حزمة "المساعدات - الاستثمارات" الأميركية المرتقبة، إطارَ المعونة الإشكالي الأميركي هذا إلا ممانعة يسيرة، فقد أرسلت القيادة السياسية الفلسطينية بالفعل إشارات واضحة إلى واشنطن، عقب فوز بايدن، بأنها مستعدة لعودة "القديم المعتاد"، حيث ينسجم إطار العمل السياسي الذي اعتمدوه، منذ تأسيس السلطة الفلسطينية، ومعايير إدارة بايدن. وواضح أنهم لم يتعلموا من الإخفاقات السابقة طوال العقود الماضية، فها هم عازمون من جديد على التعويل، كليًا أو شبه كلي، على الولايات المتحدة وقبول مساعداتها.
هدفت المساعدات الأميركية للسلطة الفلسطينية إلى ترسيخ دورها مقاولا فرعيا لدى الاحتلال
تمر السلطة الفلسطينية بوضع مالي مُزرٍ، لذا تَعدُّ تدفقَ المساعدات الأميركية بمنزلة الهواء الذي يُبقيها حية، وستكون مستعدّة للتعايش مع الشروط المقترنة بها، غير أن هذا ليس خبرًا جيدًا بالنسبة إلى سعي الفلسطينيين من أجل تقرير المصير والحرية والكرامة. وقد هدفت المساعدات الأميركية للسلطة إلى ترسيخ دورها مقاولا فرعيا لدى الاحتلال الإسرائيلي، وهي تعود بالنفع على الاقتصاد الإسرائيلي بتحمُّلها جزءًا من تكاليف الاحتلال وإطالة أمده، وترسِّخُ التشرذم الفلسطيني، وتَحُول دون قيام الديمقراطية الفلسطينية. ومع تدفق حزمة مساعداتٍ جديدةٍ من الإدارة الأميركية المقبلة، تشتدّ هذه الديناميات المضرّة وتقوى، وتجعل آفاق تحقيق السلام الحقيقي والدائم أكثر قتامة.
لقد آن الأوان لتجاوز "الوضع المعتاد القديم"، بيد أنَّ الإدارة الأميركية القادمة والقيادة السياسية الفلسطينية غير قادرتين على الانتقال إلى "وضعٍ معتاد جديد"، يُقرّبنا من تحقيق السلام الحقيقي والدائم، وغير راغبتين أصلًا في ذلك.