مناخات ما قبل انتخابات الرئاسة في تونس
تتوالى تباعاً تصريحات وجوه سياسية بارزة في تونس، تعلن ترشّحها للانتخابات الرئاسية التي لم يُعلَن رسمياً تاريخها، غير أن رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، فاروق بوعسكر، قال إنها ستنعقد في الثلاثية الأخيرة من العام الجاري. ولا نعتقد أن يجرؤ على تصريح بمثل هذه "الخطورة" من دون أن يكون قد تلقّى الضوء الأخضر من أعلى مواقع السلطة المعنيّة رأساً بهذه الانتخابات، وهي التي تراهن عليها من أجل توفير متّسع الوقت حتى ترسّخ مشروعها السياسي الذي لا ندرك منه سواء عناوينه الكبرى: سلطة الشعب وسيادته، الدفاع عن المؤسّسات العمومية، ترذيل النخبة السياسة والديمقراطية التمثيلية عموماً. وسواء كان للرئيس مشروع سياسي واقعي، أو هو مجرّد لافتات هلامية تُستعمل عادة لتحريك الأهواء والمشاعر وحتى الغرائز، فإن مساندي الرئيس يعتبرون أن العهدة الرئاسية التي تكاد تنقضي (خمس سنوات) لم يتمكن فيها الرئيس من تحقيق مشروعه هذا، لعدة اعتبارات، لعل أهمها: التركة الثقيلة للعشرية الماضية التي يطلقون عليها مختلف أنواع التوصيف الشاتم، فضلاً عن أعداء المشروع الذين ما زالوا يضعون "العصا في العجلة" لكبح رغبة الإصلاح واستمرار الفساد، بل لا يتوانى الرئيس في اعتبارهم متآمرين، لا على المشروع فحسب، بل على البلاد برمّتها، وهو لا ينسى في كل خطابٍ التذكير بهم، داعياً إلى محاربتهم والقضاء عليهم باعتبارهم "جراثيم" وجب تطهير البلاد منها.
يمكن أن نستحضر في دائرة أعداء المشروع هذا النخب السياسية التي تحمّلت عبء الحكم وحتى المعارضة خلال العشرية الماضية، علاوة على رجال الأعمال، الإعلاميين... الذين تواطأوا مع قوى خارجية من أجل إفشاله. لا يعرض الرئيس وصفة الخلاص هذه على التونسيين فحسب، بل على أحرار العالم من أجل تغيير النظام العالمي غير المنصف، واستئناف معارك التحرّر الوطني التي خانها الجميع.
تجد مكونات الساحة السياسية في تونس، وخصوصاً المعارضة، اليوم نفسها في حيرةٍ من أمرها
حين جرى الاستفتاء على الدستور قاطعته المعارضة السياسية بكل أطيافها تقريباً ما عدا أحزاب الموالاة من يساريين يؤمنون بأهمية المشاركة، وحتى الاندساس أيضاً، خصوصاً أنهم يعتقدون أن الرئيس قيس سعيّد قد حقّق لهم هدفاً صعب المنال إن لم يكن مستحيلاً، وهو التخلص من عدوهم السياسي، حركة النهضة، وبعض القوميين الذين يرون في الرئيس بطلاً قومياً عربياً ناصر فسلطين ورفض كل أشكال التدخّل الأجنبي.
رأت المعارضة التونسية، المؤلفة من جبهة الخلاص وخماسي "الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية" أن الرئيس استفرد بكتابة الدستور، وهو الذي تخلّص من أبرز زملائه الذين صاغوا مسوّدة أولى يُشاع أنه رفضها، ألقى زميليه أستاذي القانون الدستوري، أمين محفوظ والصادق بلعيد، على حافة الطريق وواصل منفرداً... حتى كانت حصيلة الاستفتاء هزيلة، إذ لم تتجاوز 20%. أما الانتخابات التشريعية، وحتى المحلية، فإن نتائجها كانت ضعيفة في ظل دعوة المعارضة إلى مقاطعة الانتخابات والعزوف الذي يستفحل في أجواء لامبالاة وخوف يعصف بفئات اجتماعية وسياسية واسعة.
تجد مكونات الساحة السياسية، وخصوصاً المعارضة، اليوم نفسها في حيرةٍ من أمرها، سيّما أن كل أركان الاستفراد بالسلطة وضيق الفضاء العام وملاحقة رموز المعارضة تستفحل مقارنةً بلحظة صياغة الدستور. ورغم ذلك كله، يبدو أن جلّها هو الآن باتجاه المشاركة في الانتخابات والرهان مجدّداً على "ثورة صناديق الاقتراع" التي يعوّل عليها هؤلاء لوضع نهاية لحكم الرئيس سعيّد، وقد انتهى هؤلاء إلى قناعة مفادها بأن الشارع وحده عاجزٌ عن تغيير المعادلة.
شهيّة الترشّح قد تفتحت لدى عديدين، متناسين كل التحفّظات التي عبّروا عنها سابقاً
ورغم صعوبة انسجام رؤيتهم السياسية وغياب تناسق قراءتهم المختلفة، سواء للمشهد السياسي وتحوّلاته، فإنهم قد قرّروا المشاركة في مجملهم. وبدأ بعضٌ من تلك القيادات يقدّم ترشّحه. فقد أعلن الوزير السابق في حكم بن علي المحسوب على حزب التجمّع الدستوري الديمقراطي المنحلّ (الحاكم سابقاً)، منذر الزنايدي، من باريس، منفاه الاختياري، ترشّحه، ومضى في حملة سابقة لأوانها، ولكن أحداً لا يعلم جدّية هذا الترشّح، وما إذا كان الرجل سيعود إلى تونس، وهو المهدّد بعدة تهم تبدو جاهزة. وتلاه أيضاً الطبيب لطفي المرايحي، وهو الذي خاض انتخابات سنة 2019 الرئاسية وخسرها. كذلك فإن الإعلامي ورجل الأعمال الشاب، نزار الشعري، أعلن ترشّحه، وهو الذي لا يخفي أنه كان وراء ترشّح الرئيس سعيّد، ما جلب له متاعب قضائية عديدة في الأشهر القليلة الماضية. ويبدو أن شهيّة الترشّح قد تفتحت لدى عديدين، متناسين كل التحفّظات التي عبّروا عنها سابقاً، وقاطعوا لأجلها كل الانتخابات والاستشارات منذ "25 يوليو" (2021) تحديداً. تجري هذه الانتخابات ووجوه سياسية عديدة بارزة في السجن، فضلاً عن ملاحقات متواصلة تطاول الإعلاميين والقضاة والجمعيات، إلخ.
ربما لم يتوقع المعارضون تواصل التصلب السياسي للسلطة، وركون طيف واسع من الأحزاب إلى المهادنة أو الموالاة، ما جعل حساباتهم جلّها تسقط في الماء. لذا ها هم يراهنون على صندوق الاقتراع من أجل غلق قوسي الرئيس سعيّد، وتلك أمانيّ ستظلّ معلقة إلى حين.