منظوميّة السؤال في مسألة النهوض
لا تزال خرائط الأسئلة تعطينا ضمن استراتيجية السؤال ملامح جديدة وقضايا مهمّة، وهي لا تزال تثير أكثر من فكرةٍ جديرةٍ بالتأمّل والمتابعة والفحص والمدارسة، سواء في طرح السؤال الصحيح أو ما يثيره التساؤل من ضرورة تحديد منهج النظر إليه؛ من المسائل المهمّة في خريطة الأسئلة أن نتابع ونتبع في هذا الشأن المدخل في التفكير المنظومي. تعرف المنظومة بأنها "مجموعة من المكوّنات والعناصر التي ترتبط بعلاقاتٍ منسّقةٍ متناغمة لتكوِّن مجالا بعينه، بينها تفاعلاتٌ نشطةٌ تهدف الى تحقيق أهداف محدّدة في هذا المجال؛ ومن ثم فإن "المنظومة تعني في جوهرها وجود بنية ذاتية التكامل تترابط مكوّناتها بعضها ببعض، ترابطاً بينياً في علاقات تبادلية التأثير، ديناميكية التفاعل قابلة للتكيف والتكييف".
المنظومة بنيةٌ مفتوحةٌ ومتطوّرةٌ وليست جامدة، بنية شبكية تتّسم بالتشابك وليست خطية التتابع، أي أن المنظومة تمثل كلاً وليس فقط مجرّد تجمع عدّة أجزاء، ولها حدود تحيط بمكوناتها وبيئة وسياقات، فالمنظومة تشمل جميع نواحي الحياة، فمن خلالها يمكن إعداد الخطط والبرامج، وأيضا تحديد الأهداف والغايات بصورةٍ منظوميةٍ بعيداً عن المنحنى الخطّي الذي يتسم بضعف الترابط والعلاقات بين أجزاء المنظومة وإهمال جوانب كثيرة مهمّة تتعلق بزوايا النظر المختلفة.
استلهام هذه النظرة المنظوميّة في عالم الأسئلة يحرّك كل المعاني التي تتعلّق بمنظومة الأسئلة وشبكيّتها وتفاعلاتها ومسألة المتغيّرات فيها والنواة الصلبة منها؛ وهي بهذا الاعتبار تحدّد العلاقة بين الفرع والأصل، وبين الجزء والكل في نسقٍ، وعلى صعيد واحد؛ والاشتقاق من ذلك وتوليد الأسئلة منه وفيه ومعه، وهي من خلال فكرة الشبكية العاملة في جوهر مفهوم المنظومية تؤكّد على حالة التكامل بين الأسئلة والتنوّع فيها والتفاعل والتداخل فيما بينها؛ وترتيب الأسئلة، تصاعديا أو تنازليا، بما يؤثّر في الإدراك والفهم الكلي الشامل. وحتى يمكننا تفهم (وتدبّر) تلك اللوازم والمقتضيات التي يفرضها التفكير المنظومي المسكون بالحالة الشبكية، يمكننا أن نتطرّق إلى قصة مهمّة في هذا المقام.
حينما كنتُ طالبا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في السنة الثالثة في مرحلة البكالوريوس؛ لم تكن قاعة البحث تعليما وتدريبا على الكتابة البحثية أو تعريفا بمناهج وأدواتها فقط؛ بل شكّلت، في الحقيقة، معامل تدريب للطلاب على الحوار وبناء الحجة؛ وكان الدكتور الذي وصل توّاً من أعرق الجامعات في كندا هو من يعطينا هذا المساق المهمّ الذي تميزت به كلية الاقتصاد والعلوم السياسية؛ والذي افتتح إحداها بسؤال مهم وخطير في آن. لقد طرح سؤالا مفادُه: ماذا يمكننا أن نأخذ ونرفض من الغرب؟ وطفق الطلاب يبدون الآراء على تنوّعها؛ إلا أنني حينما أتى الدور علىّ؛ قلتُ للأستاذ حينها؛ هذا السؤال ربما ليس في مقام أن يُبدأ به؛ وأن النظر إلى السؤال ضمن أسئلة أخرى أحرى بها أن تسبقه؛ وأخرى من الواجب أن تلحقه؛ فجاءني ردُّ الأستاذ؛ فهمنا ماذا تريد بالضبط! لقد طرحت سؤالاً وعليك أن تجيب من دون تفلسف!
المنظومة بنيةٌ مفتوحةٌ ومتطوّرةٌ وليست جامدة، بنية شبكية تتّسم بالتشابك وليست خطية التتابع، أي أن المنظومة تمثل كلاً وليس فقط مجرّد تجمع عدّة أجزاء
قلتُ لعلّ هذا السؤال المهم لا بد أن يُسبق بأسئلة ثلاثة ويلحق بثلاثة أخرى؛ الأسئلة الثلاثة التي وجب أن تسبقه؛ من نحن؟ (الهويّة الجمعية)؛ ماذا نملك؟ (عالم الإمكانات والقدرات المادية والمعنوية)؛ فلا يعقل أن أقترض ومعي الكثير؛ أما الثالث: على أي أرضٍ نقف؟ (الموقف)؛ ثم يأتي السؤال الذي طرحه أستاذنا ماذا نأخذ أو نرفض من الغرب؟ أما الثلاثة الأخرى التي تلحقه فهي أسئلة العمل بعد تحديد الموقف؛ ما العمل؟ (استراتيجية الفعل الموافقة للموقف والملائمة للحال)؛ أين السبيل؟ (الطريق والطريقة والمنهج)؛ من أين نبدأ (نقطة البداية في الأخذ والترك)؛ تراتب الأسئلة؛ مترافقة مع منهجية توليد الأسئلة والاشتقاق من سؤالٍ رئيسيٍّ وتقاطع الأسئلة وتشابكها؛ لأن فهم حال السؤال يمكن أن يحيلنا إلى أمريْن: الأول إعادة صياغة السؤال؛ والثاني يتعلق بوضع السؤال مكانته ضمن منهجية شبكية الأسئلة ومنظومتها وتفاعلها؛ والذي يؤثر لزوما على مسار الاستجابة والجواب. وهو شأنٌ جامعٌ يرتبط بكل أسئلة النهوض توقّيا للتحيّز في طرح السؤال أو المواقف المتعلقة بتحيّزات المواقف المسبقة. ومن هنا كان مهمّا أن يستصحب ذلك منهجية متعدّدة الأبعاد؛ منهج النظر؛ منهج التناول؛ منهج التعامل؛ منهج التوليد؛ منهاجية التشابك والشبكية؛ منظومية التفكير.
أما عن السؤال والتحيّز... فإن ميزة السؤال حينما يُرى في مقامه وسياقه؛ وبعد التحقق من صحّته وصلاحيته؛ تدقيق السؤال من أهم العمليات المنهجية التي تُؤمن طريق الجواب والاستجابة؛ أنه (السؤال) يطرح القضية ولا يحدّد بشكلٍ أو بآخر طريقة الإجابة أو التحيّز في إبداء الرأي به والإجابة عليه، وحينما يكون السؤال متحيّزا فإن أخطر ما يكون على من يتحدّث في مسألة النهوض أن تأتي تلك الإجابات متحيّزة؛ ولعل السؤال المشهور لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم؟ الذي كان عنوانا لكتاب شكيب أرسلان؛ هو من الأسئلة المسكونة بذلك التحيّز، ذلك أن الوقوف عند سؤال النهوض وكفى يُعدّ سؤالاً صحيحاً يتطلب رصد الاستجابات المتعدّدة والإجابات المتنوعة. قد يوحي السؤال بمسائل معينة في الوصف والمقارنة؛ كما يثير قضية المفاهيم الخاصة بمفهومي التقدّم والتأخّر. ومع ذلك، مثّل هذا الكتاب في وقته أهمية السؤال في افتتاح حوار حول القضية التي تتعلق بالتقدّم والتأخّر؛ والتخلف والنهوض.
حينما يكون السؤال متحيّزاً فإن أخطر ما يكون على من يتحدّث في مسألة النهوض أن تأتي تلك الإجابات متحيّزة
وأخيراً، يمكننا الحديث عن حقيقة السؤال؛ ومقام الأسئلة؛ في ضوء اتّحادها في الجذر اللغوي "سأل"؛ إن هذا الجذر واشتقاقاته؛ قد يؤدّي بنا الى منظومةٍ أخرى ربما ضمن هذه الرؤية اللغوية ونظرية الاشتقاق إلى أسرة كلماتٍ مع استصحابها تتكوّن المواقف المنهجية والمعايير التي ترتبط بالسؤال صحةً وصلاحيةً؛ لياقةً وملاءمة؛ مصداقية وأمانة؛ ذلك كله حتى يقع السؤال صحيحاً سليما: وكما يقولون السؤال الصحيح نصف الإجابة؛ منظومة الاشتقاق إذاً تُحيلنا إلى؛ السؤال؛ السائل؛ التساؤل؛ المسألة والمسائل؛ المسؤولية؛ المساءلة؛ كلمات بعضُها من بعض كلها تتكامل وتتفاعل لتجعل للسؤال قيمة معرفية وعملية، خصوصاً حينما يتعلق الأمر بمسائل ترتبط بمشاريع التغيير والنهوض والإصلاح.
أما عن السؤال فقد أوضحنا فيه ما يتعلّق باستراتيجية الأسئلة، وكذا منظوميتها؛ أما السائل فإنه يتعلق بكل من يهتم بنهوض الأمة؛ طلبا من النخب الفكرية والحركية للاجتهاد من قبلهم في الجواب والإجابة والاستجابة. أما التساؤل فيعبر عن حالة تؤكّد على حالة من عدم اليقين، ما يفتح الباب واسعا لبذل غاية الجهد في أسئلة النهوض ومحاولة تقديم الإجابات المناسبة؛ سواء على مستوى الوعي والسعي؛ الفكر والحركة. أما المسائل فهي جملة الأفكار والقضايا الكلية التي تُطرح وتصاغ في شكل تساؤلٍ كما مثلنا لخريطة الأسئلة؛ والسؤال كذلك مسؤولية كبرى، سواء في صياغته الصحيحة أو تدقيق الأسئلة؛ وهي مسؤوليةٌ فرديةٌ وجمعيةٌ تعطي السؤال حجّية في الطرح وتقديم الإجابات الوازنة والفاعلة الراشدة؛ فتكون تلك الاستجابة الواعية مقدّمة لطرح أسئلة العمل والشروع في تبنّيها على الأرض في عملية تغيير واسعة؛ إنها المسؤولية الجماعية المعبرة عن الوعي والسعي الجمعيين تتحرّك صوب الهدف والمقصد المتعلق بعمليات النهوض. ثم تتوّج كل تلك المعاني بالمساءلة الحضارية كل حين؛ المساءلة وفق هذا الاعتبار شاملة؛ المساءلة سؤالٌ وأسئلة، مسائل ومناهج، مسؤولية والتزام، قراءة بصيرة ومراجعة أمينة، وليست اتهاماً أو محاكمة، وهي ليست إسقاطاً من الحاضر على الماضي، أو من الماضي على الحاضر فإن ذلك خروجٌ على حدّ المنهج والمنهاجية. ولكن الأمر في نطاق العبرة والاستفادة؛ قراءة الاستثمار لا الإهدار؛ المساءلة مراجعة شاملة تحرّك النقد البناء والفعّال ضمن حالة حوارية كاملة وفاعلة؛ إنها أسئلة النهوض المركّبة التي لا يفيد فيها الانفعال أو الافتعال أو الإغفال، التي تبرز قيمة السؤال في استراتيجيته ومنظوميّته.