من أجل نجاح المصالحة الليبية
يبدو أن الطريق نحو المصالحة الليبية الحقيقة والفعَّالة في مستقبل البلاد واستقرارها ما زالت بعيدة التحقيق ولو جزئياً. وكذلك مُقومات نجاحها، بل وربما حتى وجود مسارها على الواقع غير "واقعي"، من الناحيتين، الاجتماعية والرسمية، فالمصالحة الحقيقية ليست مرحلة عابرة، مرتبطة بدورة سياسية واحدة لحكومةٍ أو مجلس رئاسي أو برلمان أو رئيس دولة، وإنما هي مرحلة متكاملة طويلة المدى، تَنتج عن توافق وطني يُقرّب وجهات النظر المختلفة، ويَسُدُّ، قدر الإمكان الفجوات الغائرة بين الأطراف المتنازعة، وخصوصا من الناحيتين الاجتماعية والقبلية التي يجب أن تكون من ركائز بناء المصالحة الحقيقية في ليبيا، خصوصاً في المراحل الأولى لهذه المصالحة. وذلك لا يُلغي أن يكون للدولة دور في إرسائها، عبر أجسامها السياسية، الرسمية منها وشبه الرسمية، فضلاً عن تقديم الدعم لها، والسير بها نحو الأمام، والتغلّب على المشكلات والعقبات التي تعتريها عبر مراحلها المختلفة، خصوصاً في ظل انتهاء الانقسام السياسي، وإن كان غير تام بعد، عبر الحكومة الموحدة، والمشكلة أخيراً.
المصالحة الوطنية، في ليبيا أو غيرها، لا بد أن تكون نابعة من الداخل، وأن تبتعد قدر الإمكان عن الاستقطابات الخارجية التي عادة ما تكون معول هدم. كما أن أبناء الشعب، أو بالأحرى الأطراف المتصارعة، لا بد أن يتبنوا خيار المصالحة تبنّياً صادقاً، كونه أسهل الطرق إلى بناء الدولة ولملمة شتاتها، خصوصاً بعد وصول الخيارات والأساليب الأخرى إلى باب مسدود، ونهج مردود، سواء في السيطرة على الحكم، أو حتى بنهج خيار المغالبة وفرض الأمر الواقع. وبالتالي، فإن التقدير الحقيقي لبناء وطن عبث فيه الانقسام الحاد سنوات يكون في العمل في اتجاه تسيير المتناقضات، وإلغاء عوائق الماضي، وتصحيح المسارات الرسمية للدولة، السياسية منها والاجتماعية، فضلاً عن المعالجة الأمنية اللازمة لنجاح هذه المصالحة.
المصالحة الحقيقة يجب أن تكون مؤطّرة في إطار شرعي وقانوني يحفظ الحقوق، ليس على المدى القصير فحسب، بل على المديين القصير والبعيد
وفي المقابل، قد تكون للمصالحة ارتدادات عكسية على البلاد، إذا سار فريق أو أكثر في نهج المخادعة، وجعلها (المصالحة) من مسارات التهدئة التي تسبق لهيب النار التي يسعها، عند إشعالها للرجوع بالبلاد إلى المربّع الأول، ومحاولة السيطرة عليها وإقصاء الآخر. ويمكن استجلاء هذا النهج بالنظر إلى الفعل، ومدى توافقه مع المصالحة الحقيقة، أو أن مشروع المصالحة في اتجاه، والفعل والعمل في اتجاه آخر.
إنشاء مفوضية عليا للمصالحة الوطنية في البلاد، كما جاء في خريطة الطريق التي أقرّها ملتقى الحوار السياسي في 5 فبراير/ شباط، أمر جيد، والجميع يرحب بذلك، غير أن هذه المفوضية لن تكون فاعلة أو ناجحة أو منجزة، إذا لم تكن مفوضية مجتمعية بالدرجة الأولى، بمعنى أن يغلّب عليها الطابع المجتمعي غير الرسمي. ومن جهة أخرى، أن لا تدخل فيها، وفي إنشائها، الاستقطابات السياسية. ومن جهة ثالثة، أن لا يكون لها أي ارتباط بالجهات الخارجية، بل يكفي أن يكون التواصل معها عبر القنوات الرسمية المنشئة لها. وإذا كان أمرها غير ذلك، فإن المصالح والاستقطابات الخارجية سوف تغذيها بما يخدم مصالحها، كما سوف توجهها في الاتجاه الذي تسعى إليه، ولن تكون بعدها إلا جسماً تستقطبه المصالح لا أكثر.
لا يمكن أن تكون مصالحة حقيقة وفاعلة من دون وجود مشروع إصلاحي كامل، يعمل من أجل الاستقرار، وتكوين الدولة، وعدم تكرار الاعتداء والتشظي
بالإضافة إلى كل ما ذكر، المصالحة الحقيقة يجب أن تكون مؤطّرة في إطار شرعي وقانوني يحفظ الحقوق، ليس على المدى القصير فحسب، بل على المديين، القصير والبعيد، باعتباره مشروعاً وطنياً لا يمكن أن ينتهى باستحقاق انتخابي أو دستوري، بل يتعدّاه ليكون مشروعاً وطنياً يواكب الثورة والدولة في كل تقلّباتها السياسية، وصولاً إلى مرحلة الاستقرار والوئام. وبالتأكيد، لن يتحقق ذلك على المدى القصير.
كما أن المصالحة باعتبارها مشروعاً وطنياً مجتمعياً لا يمكن أن تكون من دون توافق وطني حقيقي بين المكونات الاجتماعية والسياسية المختلفة في إطار حضاري شمولي ومتكامل، يحدّده القانون، وفق معايير جبر الضرر، ومعاقبة المعتدين، وتحقيق العدالة، وإبعاد كل من تسببوا في ذلك بغية الاستيلاء على السلطة والحكم ومحاسبتهم. كما لا يمكن أن تكون هناك مصالحة حقيقة وفاعلة من دون وجود مشروع إصلاحي كامل، يعمل من أجل الاستقرار، وتكوين الدولة، وعدم تكرار الاعتداء والتشظي والانقسام، سواء في مؤسسات الدولة، أو حتى من الناحية المجتمعية التي تتأثر تبعاً لذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.