من جديد المكارثية الإسرائيلية
كشفت العملية الفدائية في شارع ديزنغوف في تل أبيب عن مكارثية إسرائيلية، موجّهة ضد أي صاحب رأي يتعرّض للجانب الإنساني لعائلات الشهداء الفلسطينيين. ويعود مصطلح المكارثية إلى عضو مجلس الشيوخ الأميركي في مطلع الخمسينات، جوزف مكارثي، حين وجّه تهم التآمر ضد موظفين في الحكومة ومشاهير أميركيين، على أساس أنهم شيوعيون ويعملون لمصلحة الاتحاد السوفييتي، من دون أن يكون لهذه الاتهامات أساس فعلي. وعلى هذا الأساس، أصبحت المكارثية من أشكال الإرهاب الثقافي والفكري يوجّه بالأساس إلى المواطنين فيما بينهم داخل الوطن الواحد.
ليس الحديث هنا بالطبع عن الموقف الفكري أو الأيديولوجي الذي تتعامل إسرائيل على أساسه مع الفلسطينيين أو غيرهم ممن تصنفهم أعداء لمشروعها الصهيوني، بل نتحدّث عن تلك المواقف الحادّة والهجوم العاصف الذي يُقابَل به بعض الإسرائيليين إن فكّروا في الحديث عن حقوق الإنسان الفلسطيني. ومن المؤكّد أن حالة التجاذب الكبيرة بين القوى السياسية الإسرائيلية، سواء المشاركة في الائتلاف الحكومي أو المعارضة تؤثر، بشكل واضح، في تصاعد هذه المكارثية، وهي حالة مرتبطة أكثر بالصراع بين اليمين واليسار في دولة الاحتلال، وممتدة منذ عقود، وقد تصل نتائجها إلى درجة من الخطورة يمكن أن تؤثّر على صاحب هذه الآراء أو المواقف، مثلما حدث حينما أدّى اتهام رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، بالخيانة والتنازل عن الأرض، إثر توقيعه اتفاق أوسلو، إلى تأجيج غضب داخلي في المجتمع الحريدي في إسرائيل، وصل في النهاية إلى اغتيال رابين.
الإرهاب الفكري يُفقد أي مجتمع قدرته على الاستقرار والتعايش بين أصحاب التوجهات السياسية المختلفة والمساس بحرية التعبير
وإذا تحدّثنا بشكل عام، بعيدا عن الحالة الإسرائيلية، فإن هذا النوع من الإرهاب الفكري يُفقد أي مجتمع قدرته على الاستقرار والتعايش بين أصحاب التوجهات السياسية المختلفة والمساس بحرية التعبير، بل ربما يصل إلى حدوث انقساماتٍ مجتمعيةٍ خطيرة، أو وقوع احتراب داخلي أحيانا.
وقد ثارت، منذ أيام، عاصفة كبيرة في دولة الاحتلال، تناولتها وسائل الإعلام الإسرائيلية، إثر إجابة الأمينة العامة السابقة لحركة السلام الآن الإسرائيلية، غابي لاسكي، وهي عضو في الكنيست حاليا عن حزب ميرتس اليساري الذي يشارك في الائتلاف الحاكم؛ عن سؤال وجّه لها في مقابلة على قناة كان الإسرائيلية عما إذا كانت توافق على أن تدفع السلطة الفلسطينية رواتب لأسر منفذي هذه العمليات أن "من الضروري أن يكون لدى هؤلاء الأطفال دخل ينفقون منه.. أعرف أن الناس سيجدون صعوبة في سماع ذلك، لكن هذه هي الحقيقة. في مسالة حقوق الإنسان يجب أن ننظر إلى الأمر نظرة شاملة، فهناك أطفال أصبحوا من دون مصدر دخل، ولكي نمنع توجههم إلى الإرهاب علينا الاهتمام بأن يكون لديهم دخل ينفقون منه. أرى أنه لا داعي لتنفيذ عقوبات جماعية للعائلات، ولا ينبغي هدم المنازل أو إجراء اعتقالات إدارية". وقد أدّى قول لاسكي هذا إلى تعرّضها لضغوط كبيرة على المستويين، السياسي والشعبي، ففي المعارضة المتربّصة بالحكومة الائتلافية، استغله حزب الليكود، وجاء في بيانه "عبرت عضو ائتلاف بينت، غابي لاسكي، عن دعمها دفع السلطة الفلسطينية مرتبات للإرهابيين، بما في ذلك الإرهابي الذي قتل إسرائيليين في تل أبيب.. هذا دليل آخر على أن حكومة بينت الضعيفة غير قادرة على هزيمة الإرهاب".
المجتمع الإسرائيلي قائم على فكرة صهيونية متطرّفة، وأن ما يمكن أن يطلق عليه يسارا معتدلا محض كذب
ولم يأت الهجوم على لاسكي من قوى المعارضة فقط، بل أيضا من القوى المشاركة في الائتلاف الحكومي؛ فقد عبر زعيم حزب أمل جديد ووزير العدل، جدعون ساعر، عن استيائه، بقوله إن تصريحات لاسكي غير مسؤولة وخطيرة، وتتعارض مع موقف الحكومة، فالتعاطف مع الإرهابيين وأسرهم والقبول بأن تدفع السلطة الفلسطينية رواتب لأسرهم أمر يشجع الإرهاب. وقال وزير الاتصالات، يوعز هندل، "هذا تصريح أخرق، منذ سنوات لا تسمح إسرائيل بأن يتلقى الإرهابيون رواتب من السلطة الفلسطينية، هذه خطوة صعبة، لكنها حيوية لتقليل دوافع الإرهابيين الفلسطينيين، فمن يخرج لقتل اليهود عليه أن يعلم أن بيته سيهدم وعائلته سوف تعاني". وبالمثل جاء تعليق عضو الكنيست ورئيس كتلة أزرق أبيض المشاركة في الائتلاف، إيتان غينزبرغ، "ليس هناك أي مجال لتبرير دفع أموال لعائلات الإرهابيين، هذا تصريح مؤسف. وآمل أن تتراجع عنه لاسكي، حسنا تفعل المؤسسة الأمنية بمنع وصول أية أموال إلى عائلات الإرهابيين، وهذا ما يجب أن تستمر عليه". وانضمت وزيرة التعليم شاشا بيتون إلى الجوقة بقولها "إسرائيل ستهدم بيوت المخرّبين، إسرائيل ستوقف وصول أي أموال إلى عائلاتهم، إسرائيل ستنفذ اعتقالات إدارية، سنحارب الإرهاب من دون هوادة، ليس هناك غير طريق واحدة القبضة الحديدية". وقد دفع هذا التخوف الإعلاميين مؤيدي الحكومة إلى القول إن هذا التصريح هو انتحار سياسي لليسار المتشدّد، وإن لاسكي لا تعي أن تصريحها هذا يمكن أن يكون المسمار الأخير في نعش الحكومة، وقد يعيد نتنياهو ومؤيديه إلى السلطة من جديد.
أمام سيل ضغوطٍ كبيرةٍ تعرّضت لها، اضطرت حركة ميرتس للضغط على لاسكي حتى تتراجع عن تصريحاتها، وهو ما اضطرّت له في تغريدة في "تويتر"، موضحة أن تصريحها لم يكن مناسبا، واعتذرت عنه، بل وذهبت إلى أبعد من ذلك بقولها "أنا أقول بشكل قاطع إن علينا أن نحارب الإرهاب، وأن نقوم بأي شيء من أجل حماية أمننا". ولم تكن غابي لاسكي في تصريحها الأول تنفي تهمة الإرهاب عن منفذي العملية، لكنها كانت تدعو إلى أن يكون لأطفال عائلات منفذي العمليات من الفلسطينيين مصدر إنفاق، حتى لا يسيروا في الطريق نفسه، أي أن هدفها كان منع تعرّض إسرائيل لمثل هذه التهديدات.
وبالمثل، تعرّض وزير التعاون الإقليمي وعضو الكنيست عن حزب ميرتس، عيساوي فريج، لهجوم مماثل لما تعرّضت له زميلته في الحركة، فقد كتب على صفحته في "تويتر" إنه "يجب عدم المساس بنفقات الأطفال"، في إشارة إلى اعتراضه على تنفيذ إسرائيل سياسة العقاب الشامل ضد عائلات منفذي عمليات المقاومة. وقد أثار هذا هجوما واسعا ضده من قوى الائتلاف والمعارضة على السواء؛ فقد ذكّره الوزير هندل بما كان يقوم به رابين من إجراءات العقاب الشامل ضد منفذي العمليات من الفلسطينيين "يجب أن نذكّر حركة ميرتس بأن حكومة رابين بالاتفاق مع حركة ميرتس كانت هي من طردت منفذي العمليات الإرهابية، مثل هذه الخطوات تنقذ أرواحا كثيرة".
الصوت الأعلى في إسرائيل هو المكارثي الذي يسير باتجاه الفعل الأكثر عنفا، ليعاقب أهالي الشهداء الفلسطينيين
وكان الهجوم في المعارضة، أكثر شراسة؛ فاتهم نتنياهو الحكومة بأنها ضعيفة ترتبط بمؤيدي الإرهاب، وان استمرارها يشكل خطرا على إسرائيل، وانضم عضو الكنيست، إيتمار بن غفير، بقوة إلى الأصوات التي تتهم فريج بالإرهاب والخيانة "على من يؤيد إعطاء أموال لأسر المخرّبين أن يذهب إلى سورية، لا أن يكون عضو كنيست، هذا الطابور الخامس في الكنيست يعمل لصالح المخرّبين، هؤلاء هم شركاء بينت".
لا ينظر الإسرائيليون بالطبع إلى أن هؤلاء الأطفال أبرياء وغير مسؤولين عما يفعله آباؤهم أو أفراد عائلاتهم، وأنهم يعاقبون بلا جريرة، وفق إجراءات غير إنسانية فقط لأن آباءهم أو أحد أفراد عائلاتهم قرّروا أن يقاوموا الاحتلال، فالصوت الأعلى في إسرائيل هو ذلك الصوت المكارثي الذي يسير باتجاه الفعل الأكثر عنفا، ليعاقب أهالي الشهداء الفلسطينيين، ظنا أن ذلك سيكون رادعا لمن يفكّر في القيام بأي عمل مقاوم. ومن هنا جرى إجبار لاسكي على التراجع واتخاذ الموقف الذي يتماشى مع هذه المكارثية.
وتؤكد الإدانات التي تعرّض لها عيساوي فريج، وكذلك غابي لاسكي التي اضطرّت فيما بعد للتراجع عن تصريحاتها، والتماهي مع ما يريده الرأي العام من تنفيذ سياسة العقاب الجماعي، أن المجتمع الإسرائيلي قائم على فكرة صهيونية متطرّفة، وأن ما يمكن أن يطلق عليه يسارا معتدلا محض كذب، وأن حكومة رابين الذي كان ينظر إليه بعض العرب رمزا للاعتدال كانت من أوائل الحكومات الإسرائيلية التي تنفذ سياسة العقاب الجماعي.