من ينقذ كل هذه الصحف؟
تُصادف خبرا يُشيع في النفس غلالاتٍ من الأسى، موجزُه أن دائرةً معنيةً بتنفيذ أحكامٍ قضائيةٍ في عمّان تعلن بيع أثاثٍ في صحيفة الرأي الأردنية بالمزاد العلني، "مكاتب وكراسي مدراء وحواسيب وطرابيزات وعلّاقات ملابس وخزائن"، بموجب دعوى من شركةٍ مسمّاة على شركة المؤسّسة الصحافية الأردنية (الرأي). وفي صورة الإعلان (الطويل نسبيا) المرفقة بالخبر، تلحظ 49 بندا، تتضمّن الموجودات المعروضة للبيع، وكلّ منها بسعرها (علاقة ملابس خشب، عدد 1، مستعملة، 10 دنانير، علاقة ملابس عدد 3، خشب وحديد، مستعملين، السعر الإجمالي 21 دينارا، تلفون أرضي، عدد 8، مستعملين، السعر الإجمالي 40 دينارا، ...، إلخ). ويأتي الخبر الذي التفتَ إليه موقعٌ إلكترونيٌّ محليٌّ على الديون بملايين الدنانير على الصحيفة العتيدة، وتأخّرها في دفع رواتب موظفيها، وعلى التراجع الكبير جدّا في توزيعها اليومي.
وحتى يقف القارئ غير الأردني على أهمية خبرٍ كهذا، يحسن أن يعرف أن "الرأي" كانت من أنجح الشركات في الأردن، وربما حُسبت، بعض الوقت، في المنزلة الرابعة (أو الثالثة) بين أهم الشركات التي تحقق أرباحا سنوية كبرى (مع مطابعها طبعا). وكان الصحافي والموظف فيها يحوز امتيازاتٍ طيبة، منها أن ثلاثة رواتب إضافية يستلمها سنويا. ولم يُبالغ أحد الأصدقاء في وصفه لها إنها كانت "بئر نفط" في الأردن. ومنذ تأسيسها في 1971، شكّلت مع زميلتها "الدستور" (1967)، الثنائية التقليدية لصحافة الأردن اليومية، قبل أن تشهد البلاد تعدّدا في إصدار الصحف اليومية والأسبوعية، غير أن "الرأي" بقيت من عناوين الدولة الأردنية، سيما وأنها بدت بحكم الناطق باسم الدولة، وإن شهدت، للحق، في محطّاتٍ غير منسيةٍ، تنويعاتٍ في خريطة الآراء المحلية في غير شأن. وفي البال، من قبلُ ومن بعد، أنها كانت منبرا مركزيا لإطلالات كتّاب البلد ومثقفيها ونخبتها على الجمهور العام، بل إن كتّابا ومسؤولين فيها عبروا منها إلى كراسي الوزارات والحكم والبرلمان.
صحيفةٌ بذلكما الحضور والنفوذ، وأيضا بالنجاح المالي والمؤسساتي والإداري، في أزمنة مضت، تُباع موجوداتها من الكراسي والهواتف الأرضية (وعلاقات الملابس!) وغيرِها، في مزادٍ علنيّ لتوفير مبلغ، كتب أحد الزملاء إنه نحو 50 ألف دينار أردني (نحو 75 ألف دولار)، ولا يتسلّم العاملون فيها رواتبهم بانتظام شهورا. وليس حالها السيئ هذا أفضل مما هي عليه زميلتها "الدستور" التي تُغالب أوضاعا بالغة الصعوبة. ولمّا كنتُ قد سمعت من الوزير السابق، جواد العناني، قبل ثلاث سنوات، مقترحه لحلّ أزمتي الصحيفتين العتيدتين (وهما شركتان خاصتان تشترك الحكومة عبر صناديق بملكيتهما) دمْجهما في مؤسسةٍ صحافيةٍ واحدة، مع إجراء عملياتٍ جراحيةٍ صعبة، بشأن فائض الموظفين، مع ابتكار وسائل إبداعيةٍ في إنتاج المواد الصحافية واستثمار ممكنات الفضاء الرقمي والموقع الإلكتروني للمؤسسة الجديدة، أقول إنني لما حدّثني العناني بمقترحه هذا قابلتُه باستغرابٍ كثير. ولكنه يبدو الحلّ الذي قد يساعد، بإسناد حكومي ضروري وملحّ (تبيع الحكومات منذ سنوات الصحيفتين كلاما فارغا عن دعمهما)، في إنقاذ الحال. وقد اقترح هذه الصيغة أخيرا الزميل باسم سكّجها بأطروحةٍ فيها كثير من التعقل، وفي الوسع البناء عليها.
ليس واقع "الرأي" و"الدستور" الأردنيتين استثناءً في الصحافة العربية الراهنة التي عرفت موت صحفٍ كانت وازنةً في خرائط الإعلام العربي ("السفير" اللبنانية مثلا)، وثمّة الاحتضار البيّن الذي تكابده صحفٌ ورقيةٌ بلا عدد في غير بلد عربي. وأخيرا، أفيد بأن صحيفة الأهالي المصرية التي تصدُر عن حزب التجمّع الوطني التقدمي الوحدوي (يساري) عاجزةٌ عن سداد تكلفة طباعتها لمؤسسة الأهرام. وقد أطلق معلقٌ في صحيفة الوفد ما يشبه الصرخة، من أجل إنقاذ الصحف الحزبية في مصر، حمايةً للتعدّدية والديمقراطية على ما كتب، سيما أن الدولة تدعم الصحف التابعة لها (يسمّونها القومية) بمليار و60 مليون جنيه مصري سنويا. .. وهناك، في أميركا وبريطانيا وغيرهما، توقفت صحفٌ ودورياتٌ كبرى. وخاض زملاء عديدون في طرح تصوّراتٍ واجتهاداتٍ ممكنةٍ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وبعضها عملي وممكن. ولكن البادي أن القصة كلامٌ في كلام، وهذه أكبر صحف الأردن وأقواها، عقودا، تطرح في المزاد العلني علاقات ملابس فيها (الأرجح أنها كانت لاستعمال رؤساء التحرير)، للبيع .. وليس هناك من يشتري!