مهنةٌ لا تموت
هل يبحث الصحافي عن الحقيقة؟ سألتني إحدى الطالبات المشاركات بحلقة حوارية نظّمها أخيرا نادي فتيات الجمعية الثقافية الاجتماعية النسائية في الكويت، بهدف تدريب الفتيات على تقنيات الحوار وتقبّل الآراء المختلفة عبر القراءة والكتابة.
كانت الحلقة التي حاضرتُ فيها برفقة كاتبة روائية وكاتبة صحافية أشبه بمحاكمة مصغّرة للصحافة والصحافيين، وبالتالي، فالسؤال أعلاه جاء يوجه نوعا من الاتهام غير المباشر بأن الصحافي لا تهمّه الحقيقة لذاتها، بقدر ما يهمّه الخبر بغضّ النظر عن كونه حقيقة أم لا. هل هذا صحيحٌ؟ لا بد أن إجابتي ستكون منحازةً عاطفيا لصالح الصحافة والصحافيين، مهما حاولتُ التزام الحياد باعتباري أعمل في الصحافة منذ أكثر من ثلاثة عقود، لكنني لن أستطيع مهما حاولتُ أن أتجاوز اتهاما وأنا أعيش واقعا مكشوفا لم يعد يخفى على أحد، ما دامت المصادر الصحافية أصبحت متاحةً ومجانيةً أمام الجميع ولهم.
في إجابتي عن السؤال، حاولتُ أن أقول كلاما موجزا، وربما مثاليا إلى حدّ كبير، يناسب أعمار الفتيات الصغيرات، ويُساهم في تشجيع من تريد منهن الانخراط في مهنة الصحافة وتعلم بعض إسرارها مبكّرا، لكن بقي الكثير يمكن أن أعبّر عنه هنا باعتبار ان سؤالا مفتوحا وواسعا كهذا يلاحق الصحافي في مستويات مختلفة.
نعم .. نموذجيا، نستطيع أن نعتبر البحث عن الحقيقة ونشرها من أهم وظائف الصحافة في المجتمع الحديث، فالصحافة تعتبر ركيزة أساسية في تشكيل الرأي العام، وتقوم بتوفير المعلومات والأخبار الهامة التي يحتاجها الجمهور لاتّخاذ قراراته بشأن المسائل المختلفة. ومن أجل أداء هذه الوظيفة، على الصحافيين البحث عن الحقائق والمعلومات، والتأكّد من صحّتها ومصداقيتها قبل نشرها. ويتطلب ذلك منهم القدرة على البحث والتحقّق من المصادر، والتحليل الدقيق للمعلومات المتاحة، والتعامل معها بحرفية وإخلاص. ومع تزايد عدد وسائل الإعلام وتنوعها، يزداد التحدّي الذي تواجهه الصحافة في العثور على الحقيقة ونشرها بشكلٍ صحيح وموثوق. ومن هنا يأتي دور الصحافة المستقلة والمهنية في الكشف عن الحقائق وإيصالها إلى الجمهور، بغضّ النظر عن الضغوط والتحدّيات التي يواجهها الصحافيون في بعض الأحيان.
لكن علينا أن نعترف بقوة تلك التحدّيات في إضعاف قدرة الصحافيين على إكمال مهامهم في البحث عن الحقيقة، منها، على سبيل المثال، الضغوط السياسية، فيمكن أن تمارس الحكومات والأنظمة السياسية الضغط على الصحافيين لمنع نشر المعلومات التي قد تعرّض سياساتهم للانتقاد أو الفضح. ويمكن أن يتضمّن ذلك تقييد حرية الصحافة والاعتداء على حقوق أهلها وممارسيها. وهناك الضغوط الاقتصادية، التي يتعرّض لها العاملون في الصحافة من أصحاب وسائل الإعلام أو الإعلانات المدفوعة، ما قد يؤثّر على قدرتهم على نشر المعلومات بشكل مستقل ودقيق، علاوة على الضغوط الاجتماعية من المجتمعات التي يتعاملون معها، خصوصا إذا كانت المعلومات التي ينشرونها تتعارض مع المعتقدات والقيم السائدة في تلك المجتمعات.
ومن أجل تجاوز تلك الضغوط والتحدّيات، يحتاج الصحافيون إلى الحفاظ على مهنيّتهم واستقلاليتهم، والالتزام بمعايير الأخلاق الصحافية والمبادئ الأساسية للصحافة. كما يحتاجون إلى دعم منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الصحافية المستقلة، والتي تعمل على حماية حرية الصحافة ودعم المصادر الموثوقة للمعلومات، وقبل ذلك كله يحتاجون إلى الحفاظ على شغفهم بهذه المهنة بتحدّياتها الراهنة والمتوقّعة مستقبلا. صحيح أنها مهنةٌ لا تموت، ولكنها تغير أدواتها ووسائلها بشكل دائم ومستمرّ وسريع، ما يجعل الصحافي يلهث دائما وهو يحاول اللحاق بمهنته، حتى لا يجد نفسَه متخلفا عن ركبها.
الجميل أنني اكتشفتُ في تلك الجلسة مع فتيات لا يتجاوز عمر أكبرهن الثامنة عشرة أن المهنة ما زالت جذابة للأجيال الجديدة، وهذا يعني مجدّدا أن الصحافة ليست مجرد مهنة، بل هي فكرة والفكرة لا تموت.