مواسم مديح القمع

25 مارس 2020
+ الخط -
معزوفات الاحتفاء بالديكتاتوريات وبالتحكم في الحريات تصمّ الآذان وتملأ الشاشات هذه الأيام. وكأن المحتفلين والمحتفين وجدوا في "كورونا"، وببعض الإجراءات التي تواكبه، ضالتهم. يتنقل مديح القمع ما بين الوصفة الصينية في احتواء المرض من دون أي نقد لمسؤولية حكومة بكين عن التكتم عنه (وبالتالي عن انتشاره السريع) وقمع الطبيب الذي اكتشفه واستغلال موجبات ضبط الوباء لإرساء مزيد من الإجراءات القمعية وعرض تصدير تلك التقنيات إلى الخارج، مروراً بالإعجاب المتنامي بالعدد القليل من الإصابات المسجلة في روسيا، من دون القول إن ذلك ربما يعود إلى ندرة التحاليل الطبية التي تجريها السلطات هناك لمعرفة العدد الحقيقي للمرضى، وصولاً إلى الإعجاب بإغلاق مجتمعات وعزلها عن العالم مثلما هو حال قطاع غزة واليمن وكوريا الشمالية، للقول إنه الدواء الحقيقي (إلى جانب القمع والكذب والتحكّم بخصوصيات المواطنين) لإنقاذ الحيوات من وباء جامح مثل كورونا. 
في مقابل تبادل التهاني بين المعجبين باتساع نطاق سيطرة السلطات على حريات البشر والتجسّس عليهم ومراقبة اتصالاتهم وحركتهم، يظهر نموذج الحكم الديمقراطي في أزمة لا تقدّم إلا المبرّرات لدى الخبثاء أو ضعيفي العقول لتمجيد التسلط أو تحمّله أو الدفاع عنه، بحجة "حماية الجنس البشري". الارتباك الأوروبي والتأخر عن فهم مدى فداحة الفيروس وخطورة انتشاره أوصل القارّة إلى أن تكون البؤرة الأساسية للمرض في العالم اليوم. جزء مما يشرح الارتباك والتأخر إخفاء الصين المعلومات الكافية عن العالم، ومنه أوروبا، ومواصلة السماح لسيّاحها بزيارة بلدانها، على الرغم من اكتشاف الوباء، وهي جريمة موصوفة. لكن وجهاً آخر من الأداء الأوروبي البائس مرجعه سعي العواصم الغربية إلى تأجيل الانهيار الاقتصادي الحتمي عبر إرجاء إغلاق البلدان، بالإضافة إلى تهيئة الرأي العام نفسياً ليتفهم حالة الطوارئ غير المسبوقة التي ستُفرض عليه. وفي معجم أنصار النماذج الصينية والسوفييتية الجديدة والبعثية والخمينية في حل الأزمات، عبر استئصال الوباء مع حامله، أو ادعاء عدم وجود المرض عندها، فإنّ هذه التهيئة للمواطنين من العواصم الأوروبية تُعتبر نقيصة. وأكثر ما يثير السخرية من كلام الداعين إلى استنساخ النماذج سالفة الذكر لمعالجة الوباء، وللتعميم في مرحلة ما بعد الوباء، ادعاء حرصهم على حياة البشر، في حين أنّ كل ما عناهم من تجربة كورونا أن أدوات التحكم بالبشر وبحرياتهم عرفت ربيعاً يُرجّح أن يمدد له أشهراً طويلة، طالما استمرّ الوباء من دون علاج أو لقاح. ويستثنى هنا من الكلام الأداء الكارثي لدونالد ترامب إزاء كورونا، وهو أمر متروك للشعب الأميركي، لكي يحاسب رئيسه عليه في الخريف المقبل.
حين بدأت إيطاليا تتصدر عدّاد الموت من كورونا، كتب رئيس معهد أبحاث الشرق الأوسط، يفغيني ساتانوفسكي، المقرّب من السلطة الروسية، في "تليغرام"، ما حرفيته أن "البلدان ذات الانضباط السكاني الصارم والسلطة المركزية، في آسيا والمحيط الهادئ على وجه الخصوص، تُفلح أكثر من جميع الآخرين (في ضبط الوباء)، على الرغم من أنه بدأ لديها بالذات. فالدول الصغيرة الاستبدادية، أو الملكيات ذات الجهاز القمعي القوي، تتأقلم بشكل أفضل مع هذا الوضع". أما بالنسبة لأوروبا، يتابع ساتانوفسكي، فإن "اتفاقيات شنغن والحدود المفتوحة بفضلها، نعشٌ مصحوب بالموسيقى. وبعد، فإن كل ما يتعلق بحماية الحقوق الشخصية شيء رائع، حتى يتبين أنه لا يسمح بتحديد جميع الذين اتصلوا بالمرضى، ووضعهم في الحجر الصحي".
يعرض علينا صاحب هذه الكلمات، غير البعيدة عن التشفّي، خياراً مُرّاً من بين اثنين: الاستبداد ذو الجهاز القمعي القوي وما يسميه "الضبط الصارم" للسكان، لتقليل عدد ضحايا الأوبئة، أو، في المقابل، اتفاقيات شنغن التي يختصرها تهكماً بـ"النعش المصحوب بالموسيقى" والحقوق الشخصية التي لا تسمح بضبط مَن يجب وضعهم في الحجر الصحي، وبالتالي توقع أعداد موتى كثيرين.
أما وأنّ المعادلة المطروحة صحيحة في معانٍ كثيرة، فإنها تخيّرنا بين الموت بحرية تصل إلى حدّ انعدام المسؤولية، أو بفعل عبودية يصنعها البشر، وأخرى تنتقم منا الطبيعة من خلالها.
دلالات