مونديال قطر بين شغف الكرة وتوظيفات السياسة
انطلقت مباريات كأس العالم لكرة القدم في دولة قطر، وراح يتابعها، بشغف وانفعال كبيرين، ملايين البشر من جميع الجنسيات والأعراق والديانات والقارّات، سواء من خلال المشاهدة الحيّة للمباريات في ملاعب قطر، أم من خلال مشاهدتها على شاشات التلفزة في البيوت، وفي النوادي الرياضية والمقاهي والمطاعم والساحات العامة، حيث تجتمع جموعٌ غفيرةٌ من عشاق الكرة المستديرة، كي يعيشوا وقائع الحدث الرياضي مع رفقائهم، ويتكلموا لغة كرة القدم التي باتت تشكل لغة مشتركة بين أعداد كبيرة من البشر في مختلف أنحاء العالم، وتثير جملة من المشاعر والعواطف الفردية والجماعية في نفوسهم وعقولهم.
وعلى مدى شهر، ينشغل جمهور الكرة بمتعة مشاهدة لحظات المباريات بحماسٍ كبير، وبمتابعة أحداثها وملابساتها ونتائجها، ليستلب المشهد الرياضي التشاركي عيون مئات ملايين الناس وعقولهم، وذلك بعد أن أسهم النقل الإذاعي والتلفزيوني المباشر للمباريات في كسر حلقة المشاهدة الضيقة، التي كانت تقتصر فقط على من تتوفر له فرصة الذهاب إلى الملاعب، كما ساهم أيضاً في زيادة شعبية كرة القدم، ومعها مختلف المنافسات والفعاليات الرياضية.
النجاح القطري
ويعتبر اختيار دولة قطر لتنظيم مونديال كرة القدم لعام 2022، للمرّة الأولى في تاريخها وتاريخ البلدان العربية والشرق الأوسط، حدثاً غير عادي، بل تاريخياً، وجاء تكريماً للجهود التي بذلتها، وللتقدّم اللافت في مستوى اللعبة فيها، وذلك بعد أن قيل الكثير عن تهوّر الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) في منح شرف تنظيم هذه الدورة لبلد عربي ينتمي إلى العالم الثالث، وعن تشكيك وتساؤلات بعضهم عن مدى قدرة دولة عربية صغيرة على إدارة حدث كبير بحجم المونديال، وعن توفر الخدمات والمرافق اللازمة لاستضافة جمهور معولم.
وأنفقت قطر على المنشآت الرياضية والمرافق والبنى التحتية 220 مليار دولار، حيث جهزت وشيدت ثمانية ملاعب ضخمة، تصل سعة بعضها إلى ثمانين ألف متفرج، كما قامت ببناء مطار جديد، ومئة فندق جديد، وخطوط مترو، وسلسلة من الطرق، بالإضافة إلى بناء مدينة "أسباير زون"، وهي تضم نوادي رياضية عدة، واستاد خليفة الدولي، وسوقاً تجارية ضخمة، وحديقة وفندقاً وبرج الشعلة. إضافة إلى مختبرات رياضية، وصالات لياقة، ومركز طبي وعلاج فسيولوجي، وملاعب كرة قدم داخلية، ومضمار لألعاب القوى، وحوض سباحة وغطس بمواصفات أولمبية، وصالة جمباز، وقاعتين للألعاب الرياضية المتعددة، وسوى ذلك.
أرادت قطر من بهاء حفل الافتتاح وروعته كسر الصور النمطية عن العرب والبلاد العربية، وأن تقنع دول العالم أجمع بأنها دولة يحق لها تنظيم البطولة
كما استثمرت قطر أيضاً ملايين الدولارات على ضيافة وتوفير خدمات لجمهور الكرة، معوّلة على الإيرادات التي سيحققها المونديال، والتي يقدرها الخبراء بحوالي مليار دولار، وعلى رسوم البث التلفزيوني الدولي للمباريات والبالغة 4.7 مليارات دولار، لكنها ستصرف بالمقابل أكثر من مليار ونصف المليار دولار على تكاليف تشغيل الملاعب والمرافق.
ويجادل المسؤولون القطريون بأن الأموال الضخمة التي صرفت على المرافق والمنشآت الرياضية وعلى البنى التحتية، ستُضاف إلى ثروة بلادهم الوطنية، فالفنادق والملاعب التي أنشئت ستبقى، كي تشكل جزءاً من ثروات قطر ومعالمها، وبما يراكم ويزيد من "القوة الناعمة" التي تمتلكها قطر، والمساهمة في تقوية دورها عالمياً، ليس فقط بوصفها أكبر منتج للغاز الطبيعي، وصاحبة المركز الأول عالمياً في متوسط نصيب الفرد من الناتج الوطني، بل بوصفها أيضاً البلد العربي الأول الذي استضاف كأس العالم لكرة القدم.
وقد واجهت قطر انتقادات كثيرة، قد يكون بعضها مشروعاً، إضافة إلى محاولات التشكيك والهجمات والحملات التي تختلط فيها المصالح بالتوظيفات السياسية، وذلك منذ الإعلان عن فوزها باستضافة المونديال في 2 من ديسمبر/ كانون الأول 2010 في زيوريخ، حيث وصف الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، قرار الفيفا بأنه "قرار سيئ"، فيما شكك آخرون بقدراتها على التنظيم، وباستيعابها وتقبلها سلوكيات جماهير كرة القدم المرافقة للمباريات، إضافة إلى جماعات المثليين وسوى ذلك.
واستمرت الحملات على قطر حتى بعد أن بدأت مباريات المونديال، منطلقة من المنطق المزدوج ذاته في المعايير والقيم الذي تستخدمه دول الغرب الأوروبي والأطلسي، من أجل تعميم وفرض تصوّراتها للمفاهيم والقيم والمبادئ على باقي دول العالم، فلم تقم وسائل الإعلام التي تشن حملاتها على قطر، ولا الساسة الغربيون، بتنظيم حملات ضد روسيا التي استضافت النسخة السابقة من المونديال، على الرغم من السجل الأسود للنظام البوتيني في مجال حقوق الإنسان، ومن احتلاله جزيرة القرم وسلخها عن أوكرانيا.
كان للتلفزيون وثورة الاتصالات الدور الرئيس في عولمة كرة القدم تزامناً مع سيطرة رأس المال على الكرة
وعلى الرغم من ذلك كله، انطلق المونديال، وأتاح للعالم النظر فيما جرى إنجازه من مرافق ومنشآت، وإلى النجاح الذي حققه المنظمون، الذين تمكّنوا من تقديم حفل افتتاح رائع وغير مسبوق في هذه البطولة، وجاء محملاً بالعديد من الرموز ورسائل بالغة الأهمية حول التسامح والتعايش والتفاهم بين الشعوب، حيث أرادت قطر من بهاء وروعة حفل الافتتاح كسر الصور النمطية عن العرب والبلاد العربية، وأن تقنع دول العالم أجمع بأنها دولة يحق لها تنظيم البطولة.
عولمة الكرة
وإذا كانت كرة القدم الحديثة قد نشأت في إنكلترا في القرن التاسع عشر، إلا أنها انتقلت إلى بلداننا العربية خلال الفترة الاستعمارية، حيث كان يمارسها جنود الاحتلال، قبل أن تجذب اهتمام الشعوب العربية، وتستحوذ على اهتمام الكبار والصغار في جميع العالم من بدايات القرن العشرين، وراحت تكتسب تدريجياً شعبيةً متزايدة. وأقيم أول مونديال في باراغواي عام 1930، لكن كرة القدم لم تصبح ظاهرة معولمة إلا في الثلث الأخير من القرن العشرين، حيث كان للتلفزيون وثورة الاتصالات الدور الرئيس في عولمة كرة القدم، تزامناً مع سيطرة رأس المال على الكرة، بوصفها تملك قدرة هائلة على جذب جمهور المستهلكين العريض المكون من جموع عامة الناس في مختلف بقاع الأرض. ثم تحول مونديال كرة القدم، الذي يقام كل أربعة أعوام، إلى حدث دولي بارز، وأحد أهم مظاهر العولمة، وذلك بعد أن سمح التطور التقني لوسائل الاتصال بمشاهدة المباريات في بثٍّ حي مباشر، ودخل جميع البيوت والساحات والشوارع، فضلاً عن أنه يشكل مناسبة للقاء هائل بين أعداد الرياضيين والمشرفين عليهم من مختلف دول العالم.
وكان الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، الذي تأسّس في عام 1904، يضم وقتها سبعة بلدان فقط، إلا أنه اليوم صار يضم أكثر من مئتي عضو، وتحول إلى إمبراطورية كبرى، ويمتلك ميزانية تفوق ميزانيات دول كثيرة في العالم، ثم بات لعملية تشكيل المنتخبات الوطنية وكذلك الأندية الرياضية وتنظيم المباريات انعكاساتها على صورة الدول وشعوبها، وامتد ذلك إلى السياسة الدولية أيضاً، وإلى قضايا السلام والحرب والهويات الوطنية والقومية، وبالتالي تجاوزت كرة القدم حدود اللعبة الرياضية، لكي تعطي في غالب الأحيان مؤشّراً على التطور الجيوسياسي لدولة معينة، وتميزها عن سواها من الدول.
ومثل أغلب ظواهر العولمة، تمتلك كرة القدم الراهنة صورةً مزدوجة، فهي تشكّل لدى بعضهم وسيلة لنقل القيم والنماذج المجتمعية بين الدول أجمع، فيما يعتبرها آخرون بمثابة الغزو الحقيقي لمجتمعاتهم ودولهم، الذي تقوم به شركات فوق القومية، أو عابرة للقومية، لا هم لها سوى تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح المالية، بعيداً عن أية قيم إنسانية.
أضحت كرة القدم مصدراً للكسب المادي ودخلت عالم الأعمال والبورصة
ونجد متحقّق هذه الازدواجية في أن كرة القدم هي، في بعض الأحيان، تشكّل مناسبة للتعبير عن التعايش والتسامح الذي تُحدثه لحظة اللعب، وعن التواصل الذي لا يحضُر إلا بوجودها، لكنها، في أحيان أخرى، تمثل مظهراً للحقد وكراهية الآخر.
وأضحت كرة القدم مصدراً للكسب المادي، ودخلت عالم الأعمال والبورصة، نظراً إلى انتشارها وتحوّلها إلى الظاهرة الأكثر عالمية في عصر العولمة، وذلك بعد أن جرى تحويلها إلى سلعةٍ في عالم رأس المال، وهي سلعة يشتريها مليارات المستهلكين في العالم، الأمر الذي لم تحظ به أية سلعة أخرى، حيث يكمن سرّ شعبية هذه اللعبة في بساطتها، وفي إمكانية ممارستها في أماكن عديدة تشمل الشوارع والساحات، ويتقاسم شغفها وانفعالاتها الكبار والصغار، إضافة إلى امتلاكها ميزة الجماعية، وإمكانية تحولها إلى رهان جماعي بين فرق الأحياء في المدن، أو بين قرى وبلدات ومدن الدولة المعنية، إلى جانب إمكانية تحوّلها إلى رهان جماعي وطني وقومي.
تسييس الكرة
لم تكن منافسات كرة القدم بعيدة عن السياسة خلال مجمل تاريخها الحديث، والأمر نفسه ينطبق على الألعاب الأولمبية، وعلى سائر المنافسات الرياضية. وقديماً تصوّر الإغريق القدامى الرياضة بوصفها حرباً، أو لنقل استمراراً لها، لكنها حرب من دون أسلحة، إذ ليست هناك أرواح تزهق ولا دماء تراق، بل اعتبروها تربية لتعلّم السلام والهدنة والحوار. وفي العصر الحديث، أضحت المنافسات الرياضية مناسبةً مميزةً، تسمح لممثلي دول مختلفة أن يلتقوا ويتواجهوا من غير قتال، لكنها مع ذلك لم تساهم في تقريب السلام في العالم، ولم تساهم أيضاً في منع الحروب والمجازر العديدة في التاريخ الحديث.
في المقابل، وظّفت الرياضة، ومباريات كرة القدم، توظيفاتٍ سياسيةً وإيديولوجية شتّى، ففي فترة الحرب الباردة، كان يحكمها ويوجهها التنافس بين ما كان يُعرف بالمعسكريْن المتصارعيْن، حيث كانت المباريات ساحةً للتعبير عن مدى تفوّق أحد المعسكرين على الخصم الآخر، وبرهاناً على سلامة نظامه السياسي وأهليته.
تستغل الأنظمة الديكتاتورية كرة القدم وتستثمر فيها كثيراً من أجل تلميع صورتها
وقد سُيس مونديال قطر كثيراً، بالرغم من أن السياسة حضرت في المونديالات السابقة، وإنْ بشكلٍ متفاوت، ولا يخرج ذلك كله عن تدخل السياسة في عوامل الكرة المستديرة، التي تنهض على توظيفاتٍ شتّى، حيث تستغل الأنظمة الديكتاتورية كرة القدم، وتستثمر فيها كثيراً من أجل تلميع صورتها، واستغلال الكرة لتدجين شعوبها، وذلك بعكس مبادئ الفيفا التي تنص على ضرورة الفصل التام بين كرة القدم والسياسة، وتوعّده المنتخبات الوطنية والنوادي الرياضية بفرض عقوباتٍ عليها في حال تدخّل الأنظمة السياسية في فعالياتها وشؤونها، وهو أمرٌ لم يجرِ تطبيقُه، خصوصاً على الأنظمة الديكتاتورية مثل نظام الأسد، حيث كان المعلقون الرياضيون يصرخون على مسمع الجميع "غول لسورية الأسد"، عندما كان يسجل أحد لاعبي المنتخب السوري هدفاً في مرمى الفريق المنافس.
في المقابل، هناك مواقف أخلاقية وتضامنية لا تُنسى من لاعبين في المنتخبات الوطنية حيال شعوبهم، جديدُها أخيراً الموقف غير المسبوق والشجاع للاعبي المنتخب الإيراني الذين رفضوا ترديد النشيد الإيراني الوطني، اعتراضاً على قمع المحتجين في بلادهم من طرف النظام الإيراني، وتضامناً مع الضحايا، فيما ردد جمهور المدرجات "الموت لخامنئي".
أخيراً، المأمول أن يبقى مونديال كرة القدم نافذةً تطلّ على العالم أجمع، وفرصةً للتلاقي بين شعوب العالم وثقافاته وحضاراته، وأن يشكل مناسبة تساهم في تعلّم كيفية التعايش المشترك، وإرساء السلام، ومحاربة النزعات العنصرية والكراهية والفوقية، وفي تطوير الثقافة الإنسانية، وإبراز كل ما يمكنه أن يشكّل مانعاً يقف في وجه الحملات والمبالغات والتشويهات.