مونديال قطر: رؤية أخرى

24 نوفمبر 2022
+ الخط -

آخر مباراة كرة قدم شاهدتها على الأرض كانت بين فريقي مركز شباب مخيم طولكرم والخليل، على ملعب مدرسة خضوري الزراعية في طولكرم، والتي تحولت إلى جامعة فلسطين التقنية. ويومها تبعت المباراة أعمال شغب، لأن من النادر، كما يبدو، أن يسلم مشجّعو فريق بفوز فريقٍ آخر، وهذه طبيعة بشرية لا يكاد يخلو منها ملعب في أي بقعة.

كان هذا في بدايات النصف الثاني من القرن الماضي، وندر منذ ذلك الحين أن أتابع مباراةً حتى نهايتها، وإن كنتُ متابعاً جيداً، بحكم مهنة الصحافة، لما يجري على الساحة من أحداث كبرى خاصة بلعبة كرة القدم، والرياضات الشعبية المشابهة، كونها إحدى أهم أدوات السلطة، ليس للسيطرة على الجماهير وهندسة وعيها فقط، بل غدت قوةً ناعمةً بالغة الخطورة، لا تقل أهمية عن الجيوش المسلحة، ناهيك عن بعدها الاقتصادي الهائل، وحجم حصتها من التجارة العالمية.

الرياضة اليوم اقتصادٌ وسياسةٌ وحربٌ وتنافسٌ قومي ووطني، تسهم في إعادة صياغة العقل الجمعي للناس وصناعته، وتستثمر أيضاً في التقريب بين الشعوب وزيادة التفاهم والتعارف فيما بينها، كونها لغة حركية عالمية مفهومة للجميع، لا تحتاج ترجمة، ناهيك عن استثمارها السياسي، وربما الديني أيضاً. وفي المجمل، هي إحدى أهم مظاهر حياتنا الجماهيرية اليوم، كما كانت في الأزمان الغابرة، مع اختلاف الأدوات والقوانين.

بين يدي مونديال قطر 2022، تعتمر في النفس خلجاتٌ يصعب أن تبقى حبيسة الصدر، ونحن نرقب هذا الكرنفال الكبير الذي يقع للمرّة الأولى في هذا العصر على أرض عربية، بعد أن كان منتهى أمل العرب، عقوداً طويلة، مجرّد المشاركة فيه، من دون أن تتطرّف أحلامهم فتصل إلى حد تحقيق الفوز فيه، ليدور الزمان دورة كاملة، فتصبح أرضهم هي المضيف للعالم، وتستأثر رابع أصغر دولة عربية مساحةً بهذا "الشرف"، لتكون هي راعية هذا الحدث الضخم.

الرياضة اليوم اقتصادٌ وسياسةٌ وحربٌ وتنافسٌ قومي ووطني

حتى ساعات قبل انطلاق المونديال، كان ثمّة من يشكك بانطلاقه، ويراهن على خرابه أو تخريبه، ومن أسفٍ أن من شارك في "زفة" التشكيك والتشويه والتشويش عجمٌ موتورون، وعربٌ أكلتهم الغيرة من هذا البلد العربي الصغير، الذي صنفّوه قبل ردح ليس طويلاً من الزمن باعتباره "عدواً" فوجبت محاصرته، وفي الأثناء، صارت واقعة "التخابر مع قطر" تهمة يُرمى بها الناس، بل لم يزل في سجون العرب حتى ساعة كتابة هذه السطور من هو معتقل بتهمة "التعاطف مع دولة عدوّة"، فيما تحوّل "العدو" الأصلي، وهو كيان الاحتلال، إلى بلد "صديق" و"حليف محتمل"، كما جاء على لسان أحد قادة العرب اليوم الذين حضروا افتتاح المونديال!

من الطبيعي أن تتعرّض قطر لسهام النقد المسموم القادم من بلاد النفاق الغربية، التي اعتدنا على ازدواجية معاييرها، واصطفافها العنصري ضد الأعراق غير الغربية، ودول الجنوب عموماً، التي كانت ولم تزل عرضةً للنهب والسلب. أما غير الطبيعي فهو أن تتحوّل قطر إلى هدفٍ لحملة أقلام وساسة ومعلقين عرب، فقط من باب الغيظ والحسد وقصر النظر، وربما الاختلاف في وجهات النظر، خصوصاً فيما يتعلق بموقف البلاد مما يسمّى الإسلام السياسي، فهي تكاد تكون أكثر بلاد العرب تمايزاً في موقفها من الظاهرة الإسلامية، حيث لم تشارك في "تجريم" التديّن واعتباره "إرهاباً" كما فعلت دولٌ ترفع راية الإسلام، ولم تنجرّ إلى التماهي مع سياسات الاحتلال الصهيوني المتوحش في تجريم كل من ينتصر للقدس وفلسطين والإسلام، ولم تملأ سجونها بالدعاة وأصحاب الرأي والعلماء، ولم تصنّف تنظيمات المسلمين الحركيين "إرهابية"، ولم تفتح أبواب البلاد لكل من هبّ ودبّ من مسوخ العالم بحجّة الترفيه، ولم تصرف أموال الأمة ومقدّراتها في مشروعات مجنونة مريضة خيالية، تعبر عن أحلام مريضة للوصول إلى مراتب الدول "العظمى"!

ردّ قطر على كل ما قيل وفُعل كان التركيز على الإنجاز، وتحقيق الحلم وتحويله إلى واقع مبهر

ردّ قطر على كل ما قيل وفُعل كان التركيز على الإنجاز، وتحقيق الحلم وتحويله إلى واقع مبهر، نجح بكل المقاييس في التعبير عن طقوس الحياة والثقافة العربية والإسلامية، مونديال قطر سوّق الصورة العربية الجميلة في العالم بأسره، وأضاف "إرثاً" ثقافياً جديداً لهذه الصورة التي طالما ارتبطت في المخيال الغربي بالتخلّف والتبذير وجملةٍ من الصفات المخزية، صورة العربي اليوم بعد نجاح مونديال قطر غيرها قبله، ولو لم يحقق المونديال غير هذا "التصحيح" لكفاه.

أما تخرّصات الغرب ونقمة بعض قواه الحاقدة على كل ما هو عربي فقد تكفل بالرد عليها رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، جياني إنفانتينو، حين قال إن مونديال قطر سيكون النسخة الأفضل لكأس العالم. واختصر الصورة في خطابه في افتتاح المونديال بجملة يصعب نسيانها، فقال: "بالنسبة إلينا كأوروبيين ما قمنا به على مدار ثلاثة آلاف سنة سابقة، يتعيّن علينا الاعتذار عنه على مدار ثلاثة آلاف سنة مقبلة، قبل أن نعطي دروساً للآخرين. هذه الدروس الأخلاقية تنم عن النفاق".

A99D1147-B045-41D9-BF62-AB547E776D3E
حلمي الأسمر

كاتب وصحافي من الأردن