ناغورنو كاراباخ والتدخل الخارجي
بدأت أذربيجان الحرب ضد إقليم ناغورنو كاراباخ، في 27 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) بإعلانٍ رسمي، بحجة خروجه عن سيطرتها، وسيطرته، بمساعدة أرمينيا على ست مناطق أذربيجانية في عام 1993، وانتهت الحرب حينها باتفاقية مينسك، ولكنها لم تتوّج باتفاقية سلام.
دعمت تركيا الموقف الأذربيجاني مباشرة، وهناك تحقيقات صحفية تؤكد نقل تركيا مقاتلين سوريين من أصول تركمانية إلى أذربيجان، وربما سواهم، إلى جبهات الحرب هناك وضد أرمن الإقليم. ومع هذا الموقف "القومي والديني"، تتخذ الحرب وجهاً قومياً ودينياً، وتنعش ذاكرة تاريخية لدى الأرمن ومذابح 1915. وفي دعم تركيا هذا وجه ديني، وإن كانت تركية "سنيّة" وأذربيجان "شيعيّة". وللمفارقة هنا، أن إيران "الشيعية" تدعم أرمينيا، والأمر متعلق بخلافاتٍ بين إيران وأذربيجان، وبتدخل أذري في الداخل الإيراني ودعم القومية الأذرية لنيل حقوقها.
ويوضح الموقف التركي الفوري، وليس بعد تطوّر الحرب، أن هناك تنسيقاً كبيراً كان يجري بين أذربيجان وتركيا، متعدد المستويات، وسابقا للحرب الجديدة. قوة أذربيجان أنها تسلحت بأموال الطاقة، بعد عام 1994، عبر روسيا وتركيا وإسرائيل، بينما أرمينيا مواردها شحيحة، وحتى الإقليم الذي هاجمته أذربيجان لا يتجاوز عدد سكانه 150 ألف نسمة، وبالتالي لن يصمد أمام الهجوم المدعوم إقليمياً. يضاف إلى ذلك الصمت الروسي، والاكتفاء بالمراقبة، كما يعلن دبلوماسيون روس، مع التأكيد على ضرورة إيقاف الحرب؛ وهذا الموقف لا يخص روسيا، بل أوروبا وأميركا أيضا، واللتين تتخذان الموقف ذاته!.
تقول جبهات الحرب بتقدّم واسع للأذريين. وفي حال استمر الصمت الدولي، قد يكون هناك مجازر كبرى في ذلك الإقليم. أذربيجان وتركيا تريدان انتصاراً قوياً، سيما أن تركيا تعرّضت لما يشبه الخسارة في البحر المتوسط، حيث رفضت أوروبا بشكل قاطع تغيير المعاهدات الدولية بخصوص الحدود البحرية وفرض اتفاقيات جديدة، وتغيير الوضع القديم في قبرص وليبيا والجزر التابعة لليونان. ويثير الموقف التركي حفيظة روسيا التي تعدُّ أذربيجان وأرمينيا جزءا من دولتها التاريخية "القيصرية والاتحاد السوفييتي" ومجالها الحيوي. ولكن روسيا، كما أميركا، تنتهج سياسة إدارة الأزمات العالمية، ومفاقمتها، وإشعال الحروب، وتغذية أطرافها بالأسلحة، كما تفعل ببيع الأسلحة لكل من أذربيجان وأرمينيا.
يثير الموقف التركي حفيظة روسيا التي تعدُّ أذربيجان وأرمينيا جزءا من دولتها التاريخية "القيصرية والاتحاد السوفييتي" ومجالها الحيوي
شعور أذربيجان بالقوة، وأنها ستستعيد الإقليم المتمرّد، يفتح الطريق نحو انتعاش كبير للمسألة القومية في إقليم القوقاز، وليس بين أرمينيا وأذربيجان. وسيشكل هذا ضرراً مستقبلياً على الروس الذين سيستغلون أطراف الصراع، ليفرضوا معاهداتٍ مستقبليةً عليهما بما يحقق مصالحهم وعلى المستويات كافة، ولكن الحرب القومية تلك ستدعم ذلك الانتعاش، وهذا ليس في مصلحتها؛ روسيا البراغماتية هي أهم دولة في جنوب القوقاز وبحر قزوين. ولن يكون الدعم التركي القوي حالياً، وإمكانية الانتصار في معركة ناغورنو كاراباخ، انتصاراً شاملاً، فالإقليم مدعوم من أرمينيا، وهناك إيران وروسيا وفرنسا، وجميعها رافضة للموقف التركي، على الرغم من أنها لم تتدخل حتى الآن بشكلٍ فاعل، ولكن ذلك قد يتغير في الأسابيع أو الأشهر المقبلة. السبب هنا هو الاستفادة من الصراع الجديد، وعدم القدرة على إجبار الشعب الأرمني على الصمت حيال انتقاص حقوقه، وهذا ملمحٌ عام لكل القوميات التي لم تنل حقوقها، أو لم تشكل دولتها. هناك أمر آخر، وهو تصاعد الصراعات غير المباشرة بين تركيا وفرنسا، وتركيا وروسيا. ومن خلف المشهد، هناك السياسة الأميركية القائمة على تثمير النزاعات واستغلالها لمصالحها العالمية، وهو ما تفعله روسيا في ناغورنو كاراباخ حالياً، وفي سورية وليبيا وسواهما.
لا يمكن أن يسمح الحضور الروسي في الدولتين لتركيا بالتمدّد الكبير في أذربيجان، وإقامة علاقات قوية مع بعض جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، والتي يجمعها مع تركيا العرق والثقافة والتاريخ. حساسية هذه القضية ومحاولات السلطة التركية السير في هذا الاتجاه، وفرض نفسها قوة إقليمية ندّاً للروس، سيدفع لاحقاً الروس، ومن أجل مصالحهم الجيوسياسية، إلى إيقاف تركيا عند حدودٍ معينة.
لا يسمح الحضور الروسي في الدولتين لتركيا بالتمدّد الكبير في أذربيجان، وإقامة علاقات قوية مع بعض جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق
أزمات روسيا الكثيرة، وهناك العقوبات المفروضة عليها، وهي تتعرّض إلى ما يشبه الحصار الأميركي لها في سورية، واتفاقياتها مع تركيا تهمّش حدود سيطرتها، ولكن هذا لا يعني أن روسيا ستترك إقليم ناغورنو كاراباخ لمجزرة كبيرة أو لاحتلال أذري، حيث سيشكل ذلك دوافع جديدة للأرمن لتغيير تحالفاتهم مع روسيا نحو خياراتٍ جديدة، وهي مفتوحة في كل الأحوال، كالعلاقات القوية مع الولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد الأوروبي، وهناك إيران. روسيا معنية بإيقاف تطوّر الحرب، وبتقديم مبادرات سياسية، مع ممارسة ضغوطٍ قوية على طرفي الصراع للحدّ منه.
الصراع على إقليم كاراباخ، كما الحال في سورية وليبيا، لن يتطوّر إلى حربٍ بين تركيا وروسيا، كما ينبئنا بعض المحللين. وبالتأكيد ليس مطروحاً أن يتصاعد إلى حرب شاملة بين تركيا وفرنسا، بل ولا حتى بين أذربيجان وأرمينيا؛ فأغلبية الحروب في العقود الأخيرة محدودة، ومحلية، وبالوكالة عن الدول الكبرى! للحرب أيضاً، أسباب داخلية في أذربيجان، الأزمة الاقتصادية داخل هذا البلد والشمولية السياسية. وبالتالي، الحرب، في وجهٍ منها، هي لتخفيف الاحتقان الشعبي، ورد الكرامة "الوطنية"، وهي قضية حقيقية بين الأرمن والأذريين، واستعادة المناطق الست أقلها، والإقليم بأكمله إن أمكن.
روسيا معنية بإيقاف تطوّر الحرب، وبتقديم مبادرات سياسية، مع ممارسة ضغوطٍ قوية على طرفي الصراع للحدّ منه
تطرح قضية ناغورنو كاراباخ قضية القوميات الأكبر والأصغر. وبخصوص هذا الإقليم، يقطنه الأرمن منذ آلاف السنين، أي لم يُستجلبوا إليه، كما تقول بعض التغطيات الصحفية؛ فالإقليم للأرمن قبل ولادة أذربيجان ذاتها، وكان إلحاقه بالدولة الأخيرة من الاتحاد السوفييتي في عام 1921 سبباً للمطالبة الأذرية به. غير أن على الدول البحث عن كل الطرق السياسية لتجاوز الأزمات الداخلية، فهناك ضرورة للاعتراف بالحقوق القومية للجماعات القومية، صغيرة كانت أم كبيرة، وهي قضيةٌ لم تتنبه إليها السياسات السوفييتية الأممية "الاشتراكية"، وهي تخصّ كل العالم الذي لم يتطوّر وفقاً للسياق الأوروبي، وتتفكّك قضاياه القومية. ولهذا وجدناها (المسألة القومية) قضية متفجرة في العالم العربي وداخل تركيا وفي أفريقيا والصين، وفي دول كثيرة.
فهل ستجد الدول المشرفة على اتفاق مينسك حلاً لإقليم ناغورنو كاراباخ، بعد أن فشلت من قبل؟ تتطلب المسائل القومية رؤية عالمية جديدة لمناطقها المتفجرة، ومن دون إنصاف شعوبها بدولةٍ أو عبر حقوق المواطنة أو الحكم الذاتي، وغيرها من الأشكال السياسية والإدارية، لن يكون ممكناً إخماد صراعاتها، وستظلّ مسألة للاستثمار الخارجي، وكاراباخ الآن مثال.