نحبّ سعدي يوسف ولا نحبّه
هل وفاة سعدي يوسف مناسبةٌ في الصحافات الثقافية العربية للإتيان فقط على قيمته شاعرا عربيا كبيرا ومجدّدا، وصاحب تجربةٍ متفرّدة حقا في مجرى الحداثة الشعرية العربية، من دون التذكير بما كان عليه، في السنوات العشر الأخيرة، من مواقف كاريكاتيرية وشاذّة، ومُدانة بلا تحفّظ، في غير شأن سياسي وثقافي عربي، أم أن لكل مقام مقالا؟ نعم، هو شاعر، وحاضرٌ شاعرا منذ أكثر من 60 عاما، والصحافة الثقافية معنيةٌ بأمره هذا، وبالذي أحدثه في متن القصيدة العربية الحديثة، بالتأثير الذي أشعله، في طوْر غير منسيٍّ من مسارات تجربته (43 ديوانا شعريا، عدا عن ترجماتٍ عديدة، وكتب نثرية وروايتين ومسرحية)، على بعض شعراء السبعينيات، سيما وأن غواية قصيدة التفاصيل النثرية كانت واحدةً من صنائع سعدي البديعة. وللحق، استفاضت كتاباتٌ نُشرت، فور رحيل الشاعر المعروف في لندن، فجر أول أمس الأحد، بتعيين مواقع الإضافة الخاصة التي اقترحتها قصيدة سعدي يوسف، وجعلته واحدا من كبار الشعراء العرب حقّا، خصوصا أنه نجح في أن يكون مقروءا جدّا بين شرائح عريضة، بالتوازي مع سير قصيدته في مجرىً مختلفٍ وشديد المغايرة مع السائد والمطروق، في بعدها عن الغنائيات وعن التصويرية، وفي انتهاجها مسلكا جماليا، لا تزيّد في وصفه بأنه كان مضادّا لكتابة متوطنة، ما يمكن القول بصدده هنا إن سعدي يوسف يعدّ اسما ثقيلا بين الذين صدمت نبرتُهم الشعرية، وهي خافتة لديه كما ذاع وصفها، وكذا نثريته بالغة الرهافة، مزاجا لم يكن هيّنا أن تتم المشاكسة مع ذائقته.
كتب غير صديقٍ وزميلٍ عن سعدي يوسف هذا، أي الشاعر وحسب، في الصحافة الثقافية أمس، وأظنّهم أعطوه حقّه في التأشير إلى مكانته شديدة الخصوصية في الشعر العربي، سيما في انعطافاته الذهبية، إبّان قصائده "الجزائرية" مثلا. أما سعدي يوسف الذي سمّى نفسه "الشيوعي الأخير"، وأفاض في مديح العربية السعودية وولي العهد فيها، قبل عام، في مقابلة مع صحيفةٍ سعودية، فلم يكن من مشاغل الذين انكبّوا على قصيدته وأطوارها والمؤثرات التي بدت على صلةٍ بها. وفي الوسع تبرير هذا، غير أن إغفاله تماما في الإضاءة على تجربة مثقفٍ عربي، وإنْ كان الشعر مقامه الأثير، لا أظنّه جائزا في عمل الصحافة الثقافية نفسها، ولا يحسُن أن يكون متروكا لمعلقي "السوشيال ميديا" والمغرّدين، السوريين وغيرهم، الساخطين على البؤس الذي ظهر فيه وعليه سعدي يوسف، وتحديدا منذ اشتعال ثورات الربيع العربي. وقد كان منتظرا، أو أقله متوقعا، إنْ لم يكن مطلوبا، من صاحب "جنّة المنسيات" أن ينحاز إلى حق الشعوب العربية في التخلّص من أنظمة الفساد والاستبداد القائمة بين ظهرانيهم.
تُراه اقتساما صحيحا وطبيعيا، أن يتوزّع سعدي يوسف، الذي نحبه ويُعجبنا، شاعرا حاذقا (صاحب هذه الكلمات من الشغوفين بشعره) على الصحافة الثقافية، عندما تتوسّل الرصانة والرزانة، فيما سعدي يوسف الذي لا نحبّه ولا يعجبنا مثقفا خيّب أملنا (انتقده صاحب هذه الكلمات في غير مقالة) متروكٌ شأنه هذا لـ"فيسبوك" و"تويتر"؟. أقول إن هذه قسمةٌ بائسة، وإن سعدي يوسف كان حريصا على الجهر بمواقفه في شؤونٍ غير قليلةٍ تخصٍ الأمة، وفي المقدمة ما تعلقت ببلده العراق، فهو الذي لم يوفّر الديكتاتور صدّام حسين من شديد النقد والذم، في غضون سطوة الأخير. ولمّا كانت معارضاتٌ عراقية تهيئ نفسها لتواكب الغزو الذي كان يجري الترتيب له لإسقاط صدّام ونظامه، كان صوت سعدي يوسف عاليا في هجاء هؤلاء، وقد سمّى مؤتمرهم في لندن، عشية الغزو والاحتلال الأميركيين، "عرس بنات آوى". ولمّا كنّا في سرورٍ معلنٍ من سعدي يوسف ذاك، المناهض للاستبداد في بلده، والرافض احتلال وطنه، فإن حالنا هذا يُجيز لنا إعلان بالغ الدهشة والاستنكار مما سقط فيه سعدي يوسف، المثقف العراقي الذي انتسب مبكّرا، في شبابه الأول، إلى أفق التحرّر عربيا، منذ رفض حلف بغداد، ومشاركته في حفر خنادق في دمشق تحسّبا من غزو كانت مهدّدة به في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي، وتاليا عبوره الجميل في اللحظة الثورية الفلسطينية، في طورها البيروتي، أي مما سقط فيه لمّا كتب ما كتب، أسابيع بعد اشتعال الثورة السورية، فنعت ثوار حمص بأنهم مرتزقة، وجهاديون للدعارة السياسية. ولمّا كتب إن أمرا بالربيع العربي صدر من دائرة أميركية، واعتبر الشعوب العربية عميلةً، بمعرفتها أو من دون معرفتها. ولمّا رثى معمر القذافي، ووصف نفسه مدينا لهذا الرجل برفعة الرأس وانتصاب القامة ..
تُرى، هل من صلة بين تراجعٍ طرأ في شعر سعدي يوسف في السنوات العشر الأخيرة والرثاثة البادية في مواقفه وكتاباته هذه؟