نحو مبادرة تمنع واشنطن من إطالة أمد الحرب
بينما تصدر عنها تصريحات سيئة متكرّرة بخصوص الوضع في غزّة، تنشط الولايات المتحدة في التأثير على مجرى العدوان بالدعم التسليحي واللوجستي لدولة الاحتلال، وبالتحرّكات الدبلوماسية الدؤوبة باتجاه المنطقة. وقبل أيام حلّ في المنطقة وفي زيارة ليست الأولى من نوعها مبعوث الرئيس بايدن إلى الشرق الأوسط بريت ماكغورك، وبدأ جولته من القاهرة، والهدف الدائم هو التأثير سلبا على الموقف العربي الرافض للعدوان الإسرائيلي، والتركيز على مسألة المحتجزين باعتبارها الأهم والأدعى للانشغال بها، وصرف الأنظار عن التدمير المنهجي الشامل الذي تزاوله القوات المعتدية بحقّ سكان غزّة. وهو جهدٌ أميركي مفعم باللؤم السياسي، إذ إنه يسمح للحرب الوحشية بالاستمرار على الوتيرة نفسها، إذ يعتبر أن مسألة المحتجزين أدعى للاهتمام من الإبادة الجماعية، ومن تقويض جميع أسباب الحياة ومظاهرها. ولم يتوان المتحدّث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي، بالتزامن مع بدء مبعوث بايدن جولته، عن تكرار الموقف الأميركي السقيم من رفض الدعوة إلى وقف إطلاق النار، والقبول بما تُسمّى هدنات إنسانية، وتعني منح جنود الاحتلال فرصة التقاط الأنفاس لمعاودة حربهم الوحشية، كما حدث في هدنة وحيدة استغرقت أسبوعا.
وبينما ينشط بلدان عربيان، هما مصر وقطر، في جهود الوساطة بخصوص المحتجزين والأسرى الفلسطينيين (آلاف جرى اعتقالهم منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول)، تبقى الحاجة ماسّة لتفعيل العمل العربي وقطع الطريق على استراتيجية إدارة بايدن لإطالة أمد الحرب، فواشنطن تثير قضايا مثل تجنّب توسيع الحرب، ومستقبل قطاع غزّة، وقضية المحتجزين، لصرف الأنظار عن مجرى الحرب نفسها، ووجوب وقفها، وغير عابئةٍ بالبربرية التي تسم هذه الحرب، وانزلاق السياسة الدولية (الغربية أساساً) إلى انحطاط سياسي يتم خلاله التعايش والتطبيع مع هذه البربرية وغضّ النظر عنها، إلى درجةٍ تُضمر عملياً إجازتها وتسويغها.
التحرّك الجماعي في إطار القمم أو جامعة الدول العربية قد استنفد أغراضه، وظهرت حدودُه وممكناته غير المؤهلة لتحقيق اختراق سياسي
وبما أن الأمر يمسّ الأمن الجماعي العربي، كما يمسّ كرامة الإنسان العربي الذي باتت حياته رخيصة لدى العالم الحر، وبما أنها سابقة خطيرة لدى صانعي القرارات في الغرب، وبالذات في واشنطن، فإن أولوية الأولويات في هذه المرحلة تبقى في الوقوف بوجه هذا المنحنى الخطير في السلوك الدولي، والقابل للتكرار بأشكالٍ مختلفة كلما اقتضت المصلحة الأميركية وتفتقت أذهان "مفكّري" الإدارة عن اختيار عدوٍّ ما لواشنطن وتل أبيب في منطقتنا، فيجري شنّ حرب إبادة ضد شعب عربي ما، تحت عنوان التصدّي لحركة سياسية.
ليس مطلوباً الانتقال إلى سياسة مناهضة لواشنطن، بل إلى سياسة تصون الأمن الجماعي، وتمنع التعامل مع دول المنطقة وشعوبها من منظور عنصري، كما يتجلى في الحرب على غزّة. والمطلوب، وبعيداً عن العموميات، استكمال الجهد العربي الذي بدأ بقمّة عربية إسلامية استضافتها السعودية، وتشكيل لجنة وزارية طافت على مراكز دولية، ثم تقديم العون إلى المنكوبين في غزّة مع اصطدام هذه المبادرة بتحدٍّ إسرائيلي يمنع وصول الحجم الأكبر من المساعدات، ومن غير إطلاق ردٍّ حازم عليه، إضافة إلى الجهود الدبلوماسية المبذولة في أروقة الأمم المتحدة ومنذ اندلاع الحرب، وبمشاركةٍ عربيةٍ واسعة، والتي يعترضها على الدوام الموقف الأميركي الرامي الى إطالة أمد الحرب، حتى لا يبقى حجرٌ على حجر في غزّة هاشم.
ليس مطلوباً الانتقال إلى سياسة مناهضة لواشنطن، بل إلى سياسة تصون الأمن الجماعي
وبما أن التحرّك الجماعي في إطار القمم أو جامعة الدول العربية قد استنفد أغراضه، وظهرت حدودُه وممكناته غير المؤهلة لتحقيق اختراق سياسي، فإنه يصبح من المفيد والضروري التفكير في إطار أضيق للتحرّك، يضم بالذات الأطراف العربية الأكثر تماسّا مع هذه القضية، والأكثر تأثيراً على واشنطن، من أجل تركيز الجهود والسعي إلى تحقيق نتائج ملموسة في أقصر الآجال. ويتجه التفكير هنا إلى دول في مقدّمها مصر والسعودية والأردن وقطر. وفي العادة، يقصد مسؤولو الإدارة الأميركية في جولاتهم المتتابعة عواصم هذه الدول، لإدراك واشنطن مدى تشابك علاقاتها بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ومدى تأثّر هذه الدول بمجريات الحرب على غزّة. ومع أن مواقف الدول الأربع معروفة في الدعوة إلى وقف فوري لها، فإن واشنطن لا تسمع لها، وبما أن أربعة أشهر قد مضت على حرب التدمير من غير أن تلوح نهاية لها، فإنّ في وسع الدول الأربع، بعد محادثات معمّقة مع الجانب الفلسطيني بكل مكوناته، أن تتدارس في ما بينها السبل الكفيلة بوضع واشنطن أمام مسؤولياتها، ودعوتها إلى الكفّ عن مناوراتها المكشوفة لإطالة أمد الحرب، بما يسمح بإدارة حوار جدّي بين الأطراف الأربعة وبمشاركة السلطة الفلسطينية مع واشنطن لتحقيق هدف رئيسي وأول، وضع نهاية لهذه الحرب، والتي كان من شأن الموقف الأميركي منها أن ارتفعت النقمة في صفوف الرأي العام العربي على واشنطن ومشاركتها في الحرب إلى درجة عالية، مع ما قد يثيره ذلك من توتّرات سياسية داخلية في العالم العربي.
في وسع هذه الأطراف العربية أن تأخذ زمام المبادرة بوضع العلاقات العربية الأميركية على المحكّ، كما حدث من قبل في مواضيع، مثل الطاقة وإنتاجها وأسعارها، ولم تترتب على ذلك نتائج دراماتيكية، علماً أن مطلب وقف الحرب جزء ثابت في الأدبيات السياسية المعهودة للدول والمنظمات الإقليمية والدولية، ولا يطلب العرب الكثير حين يدعون إلى وقف الحرب، ولن تتنازل واشنطن عن كثيرٍ حين تستجيب لمطلب أغلبية الدول، ومنها العربية، وفي البدء والمنتهى، ليس من حقّ تل أبيب وواشنطن أو أي جهة أخرى الشروع في حرب إبادة جماعية ضد شعب عربي، إذ يعيد ذلك العالم إلى الحقبة الاستعمارية المظلمة، إلى ما قبل إنشاء الأمم المتحدة واعتماد مواثيق القانون الدولي وحقوق الإنسان.