نزع حجاب الاستبداد هو الحل
أجريتُ قبل سنوات حوارا مع أستاذنا الراحل طارق البشري، وكانت قضية متعلقة بالمثلية الجنسية مثارة في مصر في حينه، وطرحتُ عليه سؤالا بشأن هذه المسألة، فتكلم بحدّة على غير عادته، ورفض أن يجيب. وفي مجلس آخر، تكلم عن وجهة نظره، وقال ما معناه أن الحكومات والأنظمة المستبدّة تشغل الناس بقضايا تبحث عن المختلِف فيما بينهم، لئلا يتفقوا في الحديث في مسألة الاستبداد والديمقراطية. ولا ينبغي أن نُمسك بالفروع والابتعاد عن الأصول، كما لا ينبغي أن ننجرّ وراء غايةٍ غير برئية، وقد استقرّت كلماته في الوجدان الخاص للسامعين، وهو ما نحتاج إلى إقراره في الوجدان الوطني العام، الذي سعى البِشري إلى الإسهام في تشكيل ما نقص منه، أو تثبيت ما كان متوارَثا وما زال مناسبا للحالة المصرية.
تأتي هذه الذكريات متزامنةً مع جدلٍ مستمر في مسائل العنف والأخلاق والدين، وبشكل أكثر تحديدا ما يتصل بالعنف ضد المرأة، وحينها تأتي نقاشاتٌ حول سبب الحادث، جنسيا كان أو جنائيا؛ فقسم ينافح عن حقها في ارتداء ما تراه مناسبا، وآخر يرى أن الملابس سبب الأزمة، وآخر يتحدّث عن أن الملابس جزء من الأزمة من دون جعل ذلك سببا لحصول التجاوز الجنسي أو الجنائي، وتجرى نقاشات لا تحمل طابع تكوين الأفكار، بقدر ما تحمل طابع فرضها، ولا تحمل طابع اللّين في القول والعرض، المفترض في النقاش، بقدر ما تحمل طابع الانتقاص من المغايِر.
يمكن عمل رصد واضح لحالات قتلٍ من أجل الشرف، في حين أن حوادث رفض الزواج لا يمكن وصفها بسلوك منتشر
الحاصل أن شخصا ذبح فتاةً لأنها رفضت الزواج منه، وهي الواقعة التي تنحصر في أن مجرما ارتكب فعلا إجراميا، فمن أين جاء حُماة الدين بارتباط المسألة بلباسها؟ خصوصا أن هناك حوادث اعتداء جنسي على أطفال، وأيضا هناك تجاوزات جنسية بحقّ الذكور، ولا تسلم المنتقبات كذلك من بذاءات الشارع، وهذه حالات لا علاقة لها بملابس المتضرّر/ة من السلوك البذيء أو العنف الجنسي.
ومن جهة أخرى، من أين وجد أنصار المرأة أن القضية ترتبط بالذكورة والأنوثة؟ وكأن العادة أن يقابِل الرجال رفضهم بجرائم! نعم، تحصل جرائم رفض للزواج، ولكن كم نسبتها المئوية، وهذا مقياسٌ منضبطٌ يوضح ما إذا كان هناك سلوك معتاد يرتبط بجرائم رفض الزواج. وللتدليل، يمكن عمل رصد واضح لحالات قتلٍ من أجل الشرف، في حين أن حوادث رفض الزواج لا يمكن وصفها بسلوك منتشر، فالمسألة مرتبطة إما بنفسٍ غير سويّة، أو غير مهذّبة، أو بسلوك إجرامي، كما في حالة المرحومة نيرة أشرف، وليس مفهوما سبب التشنّج حول أمورٍ لا ترتبط بأصل الموضوع. بوضوح نحن أمام مجرم، لا أمام فتاةٍ لا ترتدي الحجاب، ولا أمام ذكورٍ يقتلون من يرفضهم، بل هناك إحصائيات محلية ودولية تنقل وجها آخر للمسألة، ولكن جذب النقاش إلى هذه النقطة سيكون انزلاقا للمحظور الذي نبّهنا إليه طارق البشري.
لا توجد ثقافة تحرّض على القتل، كما لا توجد ثقافة تقبل الاعتداءات اللفظية أو الجسدية، وانتشار الاعتداءات والسكوت عنها لا يعني القبول
إذا أردنا وضع نقاش جاد في مسألة العنف أو التجاوز الجنسي أو الجرائم ضد المرأة، فهناك ثلاث نقاط يجب وضعها على الطاولة: أولا، أننا أمام سلوك إجرامي لا أمام مسألة فكرية أو أيديولوجية في المقام الأول، فلا توجد ثقافة دينية أو اجتماعية تحرّض الذكور على قتل الإناث، أو تحرّض الإناث على قتل الذكور، إذا كان هناك رفض من أي الطرفين للآخر. وتجب التفرقة بين قول "لا توجد ثقافة تحرّض... إلخ"، وقول "لا توجد جريمة تحصل"، فالجرائم موجودة، لكنها ليست محل قبول أو تحريض ديني أو اجتماعي. وكذلك ثقافة الاعتداء الجنسي بالقول أو الفعل، فهي أصبحت ظاهرة في المجتمع، لكنها ليست محلّ قبول، وهنا يجب بيان تفرقةٍ أخرى؛ فهناك فرق بين وجود ظاهرة ملموسة في المجتمع تقابَل بتجاهل أو مقاومة ضعيفة ووجود قبول وترويج لها، فالمخدّرات، مثلا، ظاهرة في المجتمع المصري، وتتفاوت تقديرات أعداد المدمنين وحجم تجارة المخدّرات، وسبق أن قدّر إحصاء لمركز بصيرة عام 2016 أن حجم تجارة المخدرات في مصر بلغ 400 مليار جنيه (الدولار سبعة جنيهات تقريبا في حينه)، وكانت نسبة تعاطي المواد المخدّرة تبلغ 10.1% من المصريين. ويقول هذا الإحصاء إن هناك تجارة رائجة وإقبالا على تعاطيها، وهذا الرواج والانتشار لا يعنيان أن هناك قبولا اجتماعيا للمخدّرات، أو أن من يسكت على المتعاطي بجواره أو البائع أمامه يرضى بالتعاطي أو البيع، فهذه حالة تبلّد عامة، وشعورٌ بأن المبادرة لا تفيد، وأن الإقدام على منع هذا السمّ يعني التعرّض للأذى.
كذلك يمكننا أن نقارن حالة التبلّد هذه بالتبلّد نفسه أمام الاعتداء الجنسي بالقول أو الفعل، فلا توجد ثقافة تحرّض على القتل، كما لا توجد ثقافة تقبل الاعتداءات اللفظية أو الجسدية، وانتشار الاعتداءات والسكوت عنها لا يعني القبول، بل يعني تبلّد الحسّ العام، وانحدار الأخلاق، أمّا محاولات تجنيب مرتكب ذلك السلوك العقاب وطلب الصفح عنه، فهذه إشارة أخرى إلى اختلال التقديرات، وذيوع التبلّد، ولا تمثّل رغبةً في دعم مرتكبه، وهذه فوارقُ يصعب تجاهلها في النقاشات الجادّة.
النقطة الثانية محلّ النقاش، تتعلق بالدور الأمني ومدى ردع الدولة ذلك السلوك، فمثلا دعنا نقارن تجمّع صِبيةٍ على فتاة أو أكثر في مناسباتٍ مثل الأعياد، ونضع هذا التجمّع مقابل تجمّع معارضين للنظام السياسي، فأين سيكون التحرّك الأمني سريعا؟ وفي أي الموقفين ستكون الأحكام سريعة وقاسية؟ الجواب معروفٌ بطبيعة الحال، وهذه إشارةٌ كاشفةٌ لعدم رغبة النظام في التعامل بجدّية مع مسألة مهمة، تتعلق بأمان مواطنات أو أجنبيات في الشوارع، وتفتح علامة استفهام بشأن تقاعس الأجهزة الأمنية والعقوبات القضائية في التعامل مع ظاهرة الاعتداء الجنسي باللفظ أو الجسد.
ما يمنع جدّية النقاشات أن هناك حجابا أمامها؛ اسمه حجاب الاستبداد، وهو يبغي تسطيح النقاشات، وزرع بذور الشقاق بين المختلفين
ترتبط النقطة الثالثة بالوعي، وللوعي شقّان؛ واحدٌ متعلق بالدور التثقيفي في المؤسسات التعليمية والمهنية، وتعزيز قيم احترام خصوصية الآخر، والحطّ من سلوك الاعتداء الجنسي على الغير، وشقّ متعلّق بدور المؤسسات والهيئات الدينية في زرع (وتنمية) الأخلاق والقيم التي تمنع هذا السلوك، أو الأبواب التي قد تكون مدخلا له، ونشر قيم العفّة بين الرجال والنساء، وترغيب الآباء في تسهيل متطلبات الزواج، وما إلى ذلك من أدوار اجتماعية تؤدّيها الهيئات والمؤسسات الدينية عبر وسائلها المختلفة، كالدروس والخطب والقوافل الدعوية وغير ذلك، وهذا الدور سحقه النظام السياسي تماما، وأبقى على جزءٍ ضئيل منه تقوم به مؤسسة بيروقراطية، يُتّهم وزيرها بالفساد.
ما يمنع جدّية النقاشات أن هناك حجابا أمامها؛ اسمه حجاب الاستبداد، وهو يبغي تسطيح النقاشات، وزرع بذور الشقاق بين المختلفين، وتشتيت تركيز الناس في قضايا فرعية، وعدم طرح الأسئلة المهمة المتعلقة بدور النظام السياسي في هذه القضايا، فينشغل الناس بقضايا ليست ساخنة، ولكن يجرى تسخينها، بدلا من الانشغال بأصل الفساد، وهو الاستبداد. ومن هنا، ليس حل النقاشات الدائرة في ارتداء الفتيات الحجاب، ولا كما يقول الآخرون إن الحل في خلعه وتصبح الفتيات نظيرات الأوروبيات في سلوكهن وملبسهن، إذ إن الحجاب الذي ينبغي نزعه هو حجاب الاستبداد لا غير، وبعد نزعه، سيُمكن حل كل القضايا في إطارٍ متماسكٍ يستند إلى انعكاس مجتمعي حقيقي في صنع القرار وسن التشريعات، وكذا سيجرى تنشيط حالة الحرص على الوطن داخل المجتمع، بدلا من حالة التبلّد السلوكي والاجتماعي.