نصر تكتيكي... هزيمة استراتيجية
كان بنيامين نتنياهو يبحث عن أيَّ نصر، فإذا تعذّر فلا بأس بصورة نصرٍ تُظهرُه واحداً من ملوك إسرائيل، الذين لا يتكرّرون كثيراً، لكنّ مذبحة السبت (الماضي) في مُخيّم النصيرات، التي شارك فيها مئات الجنود وعشرات المروحيّات، واستغرق التخطيط لها أسابيع عدّة، بمشاركة خلية أميركية مُتخصّصة، وإنْ أسفرت عن استعادة أربعة من الأسرى، جاءت برهاناً إضافياً لتوصيف عضو حكومة الحرب المُستقيل غادي آيزنكوت أنّ كلّ ما تفعله إسرائيل بقيادة نتنياهو تحقيق مكاسب تكتيكية، وليست استراتيجية، والنصر عندما يُخفق في أن يكون مكسباً استراتيجياً فإنّه يكون أقرب إلى الهزيمة منه إلى أيّ شيء آخر.
في اليوم التالي لمجزرة النصيرات المُروّعة، تحوّل نصر نتنياهو الموهوم، والمضخّم، باستعادة الأسرى الأربعة إلى كابوس في معنىً من المعاني. ويُعتقد أنّ مشاركة الولايات المتّحدة في العملية، ناهيك عن كونها مُتوقّعة متواصلة، كانت تهدف إلى تحقيق أحد أمرَين، أو أنّها وُظّفت لذلك. الأول، تأمين السُلّم الضروري لرئيس الوزراء الإسرائيلي للنزول عن الشجرة، وإعلان قبوله الرسمي والعلني بـ"المبادرة الإسرائيلية" (!)، التي أعلنها بايدن في وقت سابق من شهر يونيو/ حزيران الجاري، وإذا لم يفعل، فالبدء في السيناريو البديل، تكثيف الضغط على نتنياهو، وربّما حشره في الزاوية، وهو ما حدث في اليوم التالي للمجزرة. بدايةً، تقدّم قائد فرقة غزّة في الجيش الإسرائيلي باستقالته من الجيش، وتضمّن كتاب استقالته ما يمكن اعتبارها "عقدة 7 أكتوبر"، التي ستصبح تأسيسيّة في لاوعي العسكرتاريا الإسرائيلية، فلا نصرَ حتّى لو كان كبيراً يمكنه أن يمحو تلك الهزيمة النكراء التي مُنيت بها إسرائيل وجيشها في ذلك اليوم، على أيدي بضع مئات من مُسلّحي المقاومة، بأسلحة بدائية ولكن بعزيمة لا تلين، فإذا الدولة الأحدث تسليحاً، والأكثر قوّة على الإطلاق في المنطقة، تفقد، بحسب الجنرال آفي روزنفيلد، قائد الفرقة 143، المسؤول عن غزّة، سيطرتها، وتفشل في حماية مواطنيها: "في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) فشلت في مهمّة حياتي، وهي حماية الغلاف... ساعات طويلة، لم نتمكّن من حماية المستوطنات وعشرات الآلاف من السكان... إنّني أتألم وأحمل معي كلّ يوم الثمن الباهظ الذي يدفعه المواطنون وجنود الجيش وقوات الأمن".
بعد استقالة روزنفيلد بساعات، تقدّم الوزير في حكومة الحرب بيني غانتس باستقالته، لأنّ الحكومة بقيادة نتنياهو فشلت في الامتحان، كما قال، ولم تتمكّن من استعادة الأسرى، وبعده بقليل تقدّم آيزنكوت، وهو أحد أساطير الجيش الإسرائيلي، باستقالته، فماذا يعني هذا؟... يظنّ بعضهم أنّ واشنطن نصحت الثنائي غانتس وآيزنكوت بتأجيل استقالتيْهما، لأنّ من شأنهما إحكام قبضة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش على نتنياهو، والدفع بالحكومة نحو اليمين أكثر، وبالتالي إدامة الحرب أكثر، وإفشال أيّ مسعى إلى وقف إطلاق النار، وربّما توسيع نطاق الحرب لتشمل لبنان، لكنّ تحليلاً كهذا يُغفِل أنّ إدارة بايدن، وإنْ تطابقت مع نتنياهو في أهداف العدوان في ما يتعلق بحركة حماس والمقاومة، إلّا أنّها تختلف معها في ما عدا ذلك، واختلافها هذا ظهر إلى العلن أكثر من مرّة، وتمثّل في واحدة من هذه المرّات في استقبال غانتس في واشنطن من دون أيّ تنسيق مع نتنياهو، إضافة إلى رفع وتيرة الاتصالات مع يوآف غالانت (وزير الأمن)، فعين واشنطن ليست على غزّة فقط، بل على الرياض أيضاً، لأسباب تخصّ الرئيس بايدن، وهي تدير الأزمة ضمن مسارات ثلاثة متوازية، يفترض أن يُفضي أوّلها إلى الثاني فالثالث، أي أنّ ثمّة "عملية" مُركّبة تسعى من خلالها واشنطن إلى تحقيق نصر استراتيجي يُبعد مراكز النفوذ والثروة في الشرق الأوسط عن الصين، ويهدي الرئيس بايدن أوراق قوّة في الانتخابات الرئاسية المُقبلة. وإذا صحّ هذا التحليل، فإنّ العقبة هي نتنياهو وليس "حماس"، والمطلوب دفعه إلى الزاوية أو إخراجه من اللعبة نفسها.
هل يفسّر هذا تقرير صحيفة وول ستريت جورنال، الذي نُشر في يوم استقالات غانتس وآيزنكوت وروزنفيلد، ويفيد بأنّ إدارة بايدن والسعودية على وشك وضع اللمسات النهائية على معاهدة دفاعية ترتبط في مراحلها النهائية بالتطبيع بين الرياض وتل أبيب؟... الظن أنّنا في الربع ساعة الأخير قبل إطاحة نتنياهو لإنفاذ الخطّة الأميركية.