نصيب .. رشيد الحارة الحالم
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
من المواضيع التي تُتداول حاليا في عُمان في "تويتر"، موضوع راتب رشيد الحارة، وهو مواطنٌ تعيّنه الولاية عادة منذ زمن طويل وسيطا. وعادة ما يتم اختيار شخص عارف بمختلف تفاصيل الحارة. يتقاضى أجرا شهريا بسيطا لا يعادل حتى نصف راتب سائق لدى الوزير أو أحد خدمه. دوره أن يؤمّن على معلومات محدّدة ويكتب رسائل وطلبيات للمواطنين مما يُرسَل إلى الولاية أو الوزارة... هو، باختصار، أشبه بالشاهد الموثّق الذي تبدأ من عنده التفاصيل، وأحيانا تنتهي قبل أن تتعقد.
كتب، مرّة، صديق مقالا ذكر فيه، بحسن نيّة، أنه لا داعي لوجود أئمّة مساجد، متناسيا أن هذه الوظيفة البسيطة، والتي تؤدّى من الفجر حتى العشاء، قامت بفضلها بيوت وعِيلت أسر. أعرف، مثلا، قريبا انتظر طويلا حتى حصل على وظيفة إمام مسجد. وحين حصل عليها، احتفل بأن تزوّج فورا، لأن الوظيفة توفر له الإقامة في منزل صغير ملحق بالمسجد. كان الأمر بالنسبة إليه هديةً من السماء. ولديه الآن أسرةٌ يزيد أفرادها كل عام.
لا أظن أن الحلول المادية تبدأ من الأسفل أو من الطبقة السفلى، فمن الطبيعي أن يمسّ تقليص المخصّصات، كذلك، في ظلّ الأزمات المالية، المخصّصات المالية للطبقة المخملية التي لن تتأثر كثيرا قياسا بالآثار المصيرية التي ستنال الطبقات السّفلى من أصحاب "الرجاء والأمل"، حسب عبارة أبي حيان التوحيدي في كتابه "الإمتاع والمؤانسة".
وعودة إلى رشيد الحارة نصيب، وأستخدمه هنا نموذجا فقط لمثل هذه الوظائف الدنيا البسيطة التي تكون في بلداننا العربية، مع الأسف، أول ما تُصوّب نحوه الأنظار في معالجة أية أزمة مستجدّة، بينما يتمتع المسؤول في الوظيفة العليا بكل شهرياته التي هي في الأصل فائضة وغير منسجمة وسياقَ التقشف والتقتير العامّ.
كان نصيب، رشيد إحدى الحارات، يحلم، منذ تأسس مجلس الشورى العُماني، بأن يكون عضوا فيه. والغريب أن حلمه لم يفتر، على الرغم من مضي ثلاثين عاما إلا شهرين على أول انتخابات لهذا المجلس (تأسّس في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1991). وصديقنا نصيب يصرّ على إنعاش حلمه في رأس كل حملة انتخابية. يكون بيته حينئذ محطّة للزوار؛ وصحون التمر والقهوة تدور كل نصف ساعة أمام زائرٍ جديد يجلبه من الشارع. ولأنه يعمل سائق سيارة أجرة، فإن في جدول حملته، كذلك، أن ينقل الركاب بالمجان قبل وقتٍ كافٍ من يوم التصويت.. عليه أن يشيع شعورا بالتفاؤل من كل جانب.
كنت، أكثر من مرة، ضيفا على مائدته الدعائية، كبُرنا معا ولو من بعيد، وربما شخنا كذلك. ولكن العجيب أن حلم الرشيد نصيب لم يشخ ولم يكبر. ما زال يسكنه أمل أن يصير عضوا في مجلس الشورى. لا أعرف مرشّحا غيره، بل هو مرشّحي منذ دخلت بيته أول مرة، حين رآني أمشي بصحبة والدي، رحمه الله، فطلب منا ألا نكمل طريقنا وأن "نتقهوى" في بيته.
حين دخلنا، لم يكن في مجلس البيت الأرضي البسيط، الذي يطل بابه على غبار السيارات، غيرنا. ظهر ولداه وسلّما علينا ثم اختفيا، قبل أن يظهرا من جديد، وأحدهما يحمل صينية تمر، والآخر دلة قهوة وصفّة فناجين، بعضها في بطن بعض، مثل لعبة ماتريوشكا روسية. رفضا الجلوس وظلا واقفيْن، صامتيْن أمامنا، ونحن نزدرد التمرات. تقدّم، بعد ذلك، أحد الولدين وبين يديه وعاء ماء، غمسنا فيه أطراف أصابعنا. ثم تقدّم حامل القهوة والفناجين. بعد ذلك، أعرب لنا نصيب عن رغبته في أن يترشّح لمجلس الشّورى، مشدّدا على أنه يعوّل على صوتينا. منذ ذلك اليوم البعيد، ونصيب يجري خلف حلمٍ لا يشيخ.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية