نعم لحلم قيس سعيّد
كاتب صحافي سوري، منتج محتوى تلفزيوني، عمل في وسائل اعلام عربية ودولية. واكب تطورات المشهد الليبي بعد سقوط القذافي عن كثب، وعمل في وسائل اعلام ليبية، متخصص في الملف الليبي، ماجستير في العلوم السياسية.
"الاستفتاءات أداة من أدوات الديكتاتورية المتنكرة، حلمي أن يقام استفتاء في دولة عربية يصوّت عليه الشعب بلا". كان هذا قول قيس سعيّد قبل أن يصبح رئيسا لتونس. هل غيّر الرجل أحكامه وأحلامه، أم أن تونس ستحقّق له حلمه؟
تشهد تونس اليوم استفتاء شعبيا على الدستور الذي يتبنّاه الرئيس قيس سعيّد، ربما يعد مصطلح التبنّي لطيفاً، إذ تبرّأ من هذا الدستور المنتظر رئيس اللجنة التي شكلها الرئيس لصياغته، هذا عدا عن معارضة طيف شعبي واسع له، يعدّه نكوصًا للديمقراطية الناشئة التي يراقبها العرب الحالمون بالتغيير في بلدانهم، كونها النموذج العربي الوحيد المعقول للانتقال من حالة الديكتاتورية وقمع الحريات الى فضاء الحرية ومجتمع الديمقراطية بأقل مستوى من العنف وأقل فاتورة من الدم.
في خضم هذا الصراع السياسي والشرخ الاجتماعي الحاد في تونس، لا بد من الإشارة إلى نقاط ربما تكون مهمة لفهم المشهد، أولاها شخصية الرئيس قيس سعيّد، إذ تعد شخصيته من الأنماط المتمركزة حول ذاتها، المستندة في قراراتها وسلوكياتها إلى منظومة داخلية شديدة المركزية والانغلاق، لا يستطيع أحد اختراقها، ولا التنبؤ بقراراتها أو سلوكياتها، الأمر الذي جعل منه رئيسا يُرسل ولا يستقبل، لديه مخرجات ولا يسمح بمدخلات، اللهم إلا التي تتوافق مع قراراته. ولذلك لا يستمع للآراء التي طرحت من أجل الحفاظ على مكتسبات التونسيين، والخروج من "الوحلة" كما يقال بالدارجة التونسية. وقد أصابت صفته هذه كثيرين بالإحباط وعدم الجدوى من الحوار معه، ما أدى إلى انفكاك عديدين من مؤيديه عنه، بما في ذلك مؤثرين داخل قصر قرطاج.
النقطة الثانية ماهية الجمهورية التي تدور في خلد الرئيس. لا أحد يستطيع بدقة تحديد شكل هذه الجمهورية، ولا حتى أقرب المقرّبين له، وليست هناك محدّدات واضحة في خطاباته ترسم ملامحها، ربما أنها غير مكتملة، حتى في رأسه، وإلا ما الذي يمنعه من طرحها للرأي العام لقياس موقفه حيالها؟ بالتالي، نحن أمام رئيس جمهورية يصعب التنبؤ بقراراته وسلوكياته، وأمام جمهورية يسعى إلى تحقيقها ليست لها ملامح واضحة، ولم يطرح نموذجاً يشبهها، إذاً إلى ماذا يستند المؤيدون في تأييدهم له؟
الغنوشي رئيس حركة سياسية وافقت على الاحتكام إلى النظام الديمقراطي للوصول إلى الحكم عبر صندوق انتخابات
يعد الاصطفاف الأيديولوجي أحد أهم الدوافع المحرّكة لموقف مؤيدّي قيس سعيّد، فعلى مر السنوات العشر الأخيرة، كان هؤلاء مع كل من يعلن موقفا عدائياً تجاه الإسلام السياسي من دون أي محاكمات عقلية. جرى استخدامهم مطية للوصول إلى السلطة، والحصول على مكاسب من التيار الأكثر تنظيما وثقلاً في تونس، وهي حركة النهضة. وقد استطاع الرئيس الراحل، الباجي قايد السبسي، استخدامهم للفوز في الانتخابات الرئاسية، إذ بنى كل حملته على هدف مركزي، استئصال الإسلاميين من السلطة. وعند فوزه، ذهب واتفق معهم، في خطوة حكيمة، إلى شراكة زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، ورسما ملامح إدارة تلك المرحلة. وأدار السبسي ظهره لأولئك، ولم يعرهم أي اهتمام، وهم أحزاب وأشخاص لم يصلوا إلى الحكم أبداً، وبقوا، طوال مسيرتهم، معارضين للسلطة، تضعهم فوق السلطة، تحتها، بجانبها، لا يجيدون سوى المعارضة، خطابهم غير بناء، ما زال في ستينيات القرن المنصرم. إذاً هم يصطفون الى جانب الرئيس سعيّد وفق هذا المعيار، بعكس بعض القوى الديمقراطية التي أيدت إجراءاته بداية، ثم عادت وأجرت مراجعاتٍ أفضت إلى معارضته باكراً، وهذه هي نقطة الاختلاف الجوهرية بين قوى تؤمن بالديمقراطية وتمارسها ضمن هياكلها لتصحيح مواقفها، وأخرى تبني مواقفها بناءً على النزعة الأيديولوجية، لا المصلحة الوطنية، حيث تركز جل النقد الموجّه إلى "النهضة" على معارضة ترؤس راشد الغنوشي البرلمان، وكانت مروحة المعارضة لذلك واسعة ومتنوعة من مختلف المشارب، وعلل أصحاب هذا الموقف معارضتهم بأسبابٍ عديدة، ليس المقام هنا لتقييمها. ولكن، هل لو لم يترأس الرجل البرلمان، وترأسته شخصية أخرى من "النهضة"، هل كان ذلك سيؤدّي الى عدم اتهامه لاحقاً بأنه يدير الأمر من وراء الستار؟ الغنوشي رئيس حركة سياسية وافقت على الاحتكام إلى النظام الديمقراطي للوصول إلى الحكم عبر صندوق انتخابات، فما الذي يمنع من تقلده أو غيره أي منصبٍ في السلطة؟ هل يُراد أن يكون في تونس آية الله أخرى على شاكلة آية الله خامنئي الذي يحكم من دون أن يتقلد أي منصب بالدولة؟
مواقف قيادة الاتحاد التونسي العام للشغل يشوبها كثير من الغموض والإشارات المتناقضة بهذا الاتجاه أو ذاك، ما يزيد الشك والريبة في أهدافه غير المعلنة
على المقلب الآخر من الرئيس سعيّد، سارعت شخصيات ديمقراطية وحزبية إلى تشكيل تيار شعبي تحت اسم "مواطنون ضد الانقلاب"، ما لبث أن اتّسع أفقيا على كامل التراب التونسي، استطاع رموزه، عبر تبنّيهم الخطاب المواطني، المستند إلى منظومة قيمية وسلوكية، تؤكد قيم الحرية والديمقراطية، في التأثير بالمزاج العام، وحشد قطاعات واسعة من الشعب، متنوعة الانتماءات والأفكار، جمعها هدف مركزي أعلنته، مواجهة" الانقلاب على الديمقراطية والدستور".
ما ميز حراك "مواطنون ضد الانقلاب" نزاهة رموزه واستقلالية مواقفهم وترفعهم في غير محطة عن التنازل عن مبادئهم، في سبيل مغريات أو مراكز في السلطة، إضافة إلى أنهم متنوعو المشارب الفكرية والأيديولوجية، ومختلفون في مسائل ومواقف عديدة، لكنهم يتفقون في نضالهم ضد عودة أي شكل من اشكال الديكتاتورية، وربما يعودون إلى خلافاتهم في تلك المسائل بعد تحقيق هدفهم المعلن، مع ذلك، برز تيار مواطنون بشكل قوي في مواجهة إجراءات الرئيس، وكان يجذب أسبوعا بعد آخر قطاعاتٍ أكبر من المؤيدين، إلى أن ركد وخفت شيئاً ما ذلك المشهد المقاوم للانقلاب، في لحظة الإعلان عن تأسيس جبهة الخلاص الوطني، المكوّنة من شخصياتٍ حزبية وسياسية كلاسيكية ومن تيارات أخرى. ويُخشى اليوم أن تسطو الجبهة على ما حققه تيار "مواطنون ضد الاتقلاب" من إنجاز وحيثية شعبية. وربما يكون ذلك أحد العوامل الرئيسية في تراجع وهج (وتأثير) المشهد المقاوم إجراءات الرئيس سعيّد، وربما تفكّكه وحدوث خلافات وانشقاقات بداخله، على المعنيين أخذه على محمل الجد، والتنبه له، فالشواهد عديدة على تفكك حركات مواطنية وتدجينها بمجرّد سطوة شهوة البروز والسلطة بداخلها. ربما الأجدى ترك هذا الحراك المواطني من دون رأس في هذه المرحلة، والتركيز على الأهداف والقيم التي يسعى إليها، لأن المزاج التونسي حادٌّ بطبعه حيال كل من يسعى إلى السلطة أو يصل إليها، وهو مزاج متفهم بعد عقود الديكتاتورية التي مرّت على مجتمعاتنا. لذلك يلتقط الرأي العام الإشارات إلى بروز نزعة نحو السلطة، ما سيجعل قطاعات واسعة تنكفئ عن هذه الجبهة.
الاتحاد التونسي العام للشغل هو أحد اللاعبين الأساسيين في المشهد التونسي، ولطالما كانت قيادته تتبع سلوكا براغماتيا لتحقيق مكاسب خاصة عند المنعطفات المصيرية. يصفه بعضهم بالنهج الانتهازي الذي يستغل كل أزمة لترسيخ نفسه فاعلا رئيسيا بغض النظر عن النتائج المترتبة على موقفه مجتمعيا واقتصاديًا. وعلى هذا الأساس، نجد أن مواقف قيادة الاتحاد يشوبها كثير من الغموض والإشارات المتناقضة بهذا الاتجاه أو ذاك، ما يزيد الشك والريبة في أهدافه غير المعلنة من انخراطه باللعبة السياسية التي أكّد مراراً أنه ليس جزءا منها، مع الإشارة إلى اتهامات عديدة للاتحاد بأنه من أسباب الأزمة الاقتصادية والمعيشية التي تعاني منها تونس، وذلك بسبب حجم (وعدد) الإضرابات التي نظمها منذ 2012.
ربما تنضج الظروف في لحظة ما تتجه فيها الأصوات إلى الجيش والأمن لإيجاد مخرج للاستعصاء الحاصل، واستلام زمام الدولة
إلى ذلك، موقف الجيش عامل حاسم في نجاح التغيير الديمقراطي من فشله، وهذا ما أثبتته وقائع السنوات العشر الماضية. والمؤسسة العسكرية التونسية اليوم كما يقول المثل "مشتهية ولكن مستحية". لطالما أكدت قيادتها أنها ملتزمة بالدستور واتباع الأوامر والتراتبية القيادية، وهذا يعني أنهم ملتزمون بتوجيهات رئيس الدولة وقراراته، وهو القائد العام ورئيس مجلس الأمن القومي، وهذا مخرج شرعي وقانوني للجيش، يستند إليه في موقفه مما يحصل، لنقل إنه حياد أميل إلى الرئيس، ولكنه ميل حذر، فالظروف المحلية والدولية غير معلومة الاتجاه. ويُعتقد أن هناك مدة لن يستطيع الجيش بعدها أن يبقى على موقفه الحالي. كما أن المؤسسة الأمنية التواقة لاستعادة سطوتها ومزايا كثيرة لها فقدتها منذ الثورة، تتحرّك بحذر شديد، فهي محمّلة بعبء ثقيل من الانتهاكات والتنكيل عقودا طويلة، وهي لا تريد أن تكون رأس حربة الرئيس بمواجهة معارضيه، لذلك نجدها تتحرّك في ظل الجيش، خلفه، ليس أمامه كما جرت العادة، فقد تعلمت من دروس الماضي، وربما كان لما فعلته هيئة الحقيقة والكرامة، أي قانون المحاسبة، أثر في تقليم أظفار هذه المؤسسة وضبط أدائها تحت سقف القانون، والأرجح أن قياداتها الحالية أكثر انضباطاً وتحسباً مما كان في عهد بن علي.
في كل الأحوال، ربما تكون المؤسسة العسكرية والأمنية التونسية الأكثر استفادة مما يحدث، فمن جهةٍ، يضيق الخناق على الإسلاميين، وتتصدّع حركة النهضة، ويبدو أنها تتشظّى على مستوى التنظيم الحزبي. ومن جهة أخرى، يتورّط الرئيس المنتخب أكثر فأكثر في إجراءاته الأحادية، من دون الالتفات لأي رأي ناصح، ويفقد زخم الشارع المؤيد له. وعليه، ربما تنضج الظروف في لحظة ما تتجه فيها الأصوات إلى الجيش والأمن لإيجاد مخرج للاستعصاء الحاصل، واستلام زمام الدولة، ليس على شاكلة ما حصل في مصر، ولكن النموذج الجزائري ربما أقرب إلى التحقق في تونس، مع إمكانية كبيرة لابتكار التوانسة نموذجهم الخاص.
في كل الأحوال، الواضح أن الرئيس قيس سعيّد يسير باتجاه أحادي، ولن يعود عنه، ولن يلتفت يمنة أو يسرة، فهو أشبه بجواد يجرّ عربة، وقد وضعت على عينيه غمامة جلدية تجعله يرى باتجاه وحيد، من دون رؤية ما حوله. وفي نهاية المطاف، سيصل إلى جدار مسدود، وحينها ربما يضطرّ الجواد للالتفات يمنة ويسرةً لايجاد طريق يسلكه، في حال لم تسد كل الطرق، كما أن المزاج التونسي العام الذي جاء برئيس من خارج المنظومة الحزبية والسياسية كرد فعل حانق وغاضب على أداء الطيفين، السياسي والحزبي، بعد الثورة، عليه ألا يكون اليوم كما تقول الرواية الشعبية: كرهاً في النمل صوتت الصراصير بنعم للمبيد الحشري، مات الجميع بما في ذلك الفراشات التي لم تهتم بالأمر.
كاتب صحافي سوري، منتج محتوى تلفزيوني، عمل في وسائل اعلام عربية ودولية. واكب تطورات المشهد الليبي بعد سقوط القذافي عن كثب، وعمل في وسائل اعلام ليبية، متخصص في الملف الليبي، ماجستير في العلوم السياسية.