نماء .. فكرة للشغف والعطاء
ما زلنا بخير، ما دام فينا من يجتهد في اجتهاد كل الطرق التي تؤدّي إلى الخير. وعبر ابتكار وسائل جديدة وطرائق مختلفة تنبع من مشكاةٍ واحدةٍ مجللة بالعطاء، وتصب في مصبّات متنوعة، يجمعها الاستحقاق، ولا يمكن التفريق بينها وفقا لحساباتٍ عنصريةٍ من تلك السائدة في عوالمنا، بعيدا عن فكرة العطاء، بمعناها الإنساني وهويتها الإسلامية الخالصة.
شهدت، قبل أسبوعين تقريبا في الكويت، حفلا أنيقا نظّمته لجنة خيرية كويتية، اسمها لجنة نماء للزكاة والتنمية المجتمعية، بهدف تكريم الطلبة المتفوقين من المكفوفين. كانت لفتةً أكثر من رائعة في ظل ظروف انتشار فيروس كورونا الذي حدّ من إقامة مثل هذه الأنشطة الاحتفالية، والتي يحظى بها الطلبة المتفوقون عادة مع نهاية كل عام دراسي. ولكن لأن هذه الفئة المكافحة من الطلبة تمتاز بوضع خاص، فقد استحقت اهتمام لجنة نماء التي طبقت حرفيا معنى اسمها الجميل، بتعزيز هذا النوع من النماء المعرفي والخيري في نفوس هؤلاء الطلبة، وذويهم الذين حضروا معهم، وشهدوا حجم الاعتزاز الكبير بهم من جميع الحاضرين من الجهات المنظمة، ومن الضيوف أيضا.
وعلى الرغم من حرص القائمين على الحفل الذي شارك في تنظيمه، بالإضافة إلى لجنة نماء، كل من جمعية المكفوفين الكويتية ومعهد البناء البشري والهيئة العامة لشؤون ذوي الإعاقة، على تطبيق قواعد التباعد الاجتماعي، وتزويد المكان بكل وسائل الوقاية الصحية، من معقمات وكمامات وغيرها، إلا أن تلك القواعد لم تفلح في كسر الحميمية التي سادت أجواءه العامة، وشجعت جميع الحاضرين على المشاركة في تكريم الطلبة المتفوقين الذين تحدوا ظروفهم بشكل مضاعف خلال العام الدراسي المنصرم، نظرا إلى أن الدراسة كانت عن بعد وعبر الإنترنت. وهو وضع كان صعبا إلى حد كبير بالنسبة للطلبة المبصرين في كل المراحل. ولهذا كان تفوق زملائهم المكفوفين ممن لم يعتادوا على استخدام الإنترنت بشكل يومي واعتيادي، كما يفعل غيرهم، مثار إعجاب الجميع، وهو ما عبر عنه المدير العام للجنة نماء، سعد مرزوق العتيبي، في كلمته في الحفل، عندما قال "نجتمع اليوم لأجل تكريم كوكبة من المتفوقين من أصحاب الهمم الذين تفوقوا رغم العقبات التي واجهتهم في طريقهم، فمن ينظر إلى طلبة المدارس اليوم، ويرى الجهد الذي يبذلونه في ظل أزمة فيروس كورونا (كوفيد 19)؛ لأنهم يدرسون بطريقهٍ لم يعتادوا عليها ويواجهون العديد من الصعوبات، يستغرب عندما يرى أن هذه الصعوبات ملازمة للطلبة المكفوفين لأكثر من 12 عاماً، وبالرغم من ذلك تفوقوا. لذلك استحق هؤلاء الطلبة من أصحاب الهمم هذا التكريم..".
أجمل ما رأيته في الحفل حرص أصحاب فكرة التكريم في لجنة نماء للتنمية المجتمعية على أدق التفاصيل التي توحي بأن التكريم ليس مجرّد واجبٍ يريدون تأديته أمام عدسات التصوير، ولا وظيفة من وظائفهم يؤدّونها في سبيل استكمال العمل، ولا وسيلة من وسائل العلاقات العامة، حيث تطفو الادّعاءات على سطوح النيات عادة، بل هو الحرص الحقيقي على استحقاقٍ آمنوا به، فسدّدوا وقاربوا واهتموا بأدق التفاصيل التي قد لا تخطر على بال أحد، لو لم يكن من المهتمين بالفعل بفكرة التكريم الحقيقي، وكما يليق بالمكرّمين ويناسب ظروفهم أيضا. من ذلك على سبيل المثال طباعة شهادات التفوّق ودروع التكريم التي وزّعت على المتفوقين بلغة بريل، ما زرع الفرح على وجوههم، وهم يتسلمونها ويتلمسون ما كتب فيها بأصابعهم، قبل أن يغادروا منصة التكريم.
شكرا لنماء الخير .. التي أثبتت لي أن الدنيا فعلا ما زالت بخير، وأن علينا جميعا واجب المساهمة في هذا الخير، عبر مساندة من يتصدّى له ويعطيه معظم وقته وجهده وشغفه ومحبّته الغامرة.