"نوّار العلت" .. في ذكرى النكبة
عندما يكتب أستاذنا، فيصل درّاج، في "ضفة ثالثة"، أخيرا، إن رواية محمد علي طه "نوّار العلت" (الأهلية للنشر والتوزيع، عمّان، 2021)، "ربما تكون أجمل ما جاءنا، نحن الفلسطينيين في المنفى، منذ كتب إميل حبيبي ما كتب"، فإنك لا بد ستُسارع إلى قراءة هذا النص. وقد فعل صاحب هذه الكلمات، ثم صار في وسعه أن يعقّب على هذا التقريظ، ثقيل القيمة، بأنه مستحقٌّ تماما، ولا بأس من "ربما" تحرّزا، أقلّه كما صنع درّاج، الدؤوب في متابعاته كل جديدٍ من منتوج الرواية الفلسطينية. ولكن الأهم من هذا التحرّز تنبيهٌ إلى أن رواية طه منشغلةٌ بفلسطينيي الأراضي المحتلة في عام النكبة 1948، في أرضهم تحت الحكم الإسرائيلي. ولذلك يتوجّه التنويه بها، في هذه السطور، وقبلها عند فيصل درّاج، إلى تميّزها الكثير بين متون المدوّنة الروائية الفلسطينية المعنية بالنكبة، وإنْ لها، بداهةً، صلتُها المتحققةٌ بكل فلسطين وكل فلسطيني، سيما وأن فضاءها الزماني بُعيْد فشل مفاوضات كامب ديفيد بين ياسر عرفات وإيهود باراك. وقبل ذلك كله وبعده، أرادت "نوّار العلت" (256 صفحة) قول كل شيء بشأن الباقين في أرضهم هناك، وأفلحت.. عن عنصرية دولة الاحتلال، وتفشّي ثقافة الكراهية فيها، وعن المحاججة الباقية بين صاحب الأرض وسارقها، وعن الفلسطيني إنسانا تقيم أرضُه في حواشيه، مدافعا عن وجوده فيها، وفي شعبٍ متنوّع، متعدّد الحكايات، وعن الإسرائيلي قلِقا وخائفا ومسلّحا، في مجتمع منقسمٍ متصدّع، وتستوطن فيه خرافة التفوّق والتغلّب، يحفظ حكايةً واحدة. قالت رواية محمد علي طه (الثانية له، وبعد 11 مجموعة قصصية) عن هذا كله وغيره، في سردٍ تناوبت موجاتُه بين متكلّمين فلسطينيين وآخرين إسرائيليين وراويةٍ عليم بهما. وفي تضاعيف الذي تقوله الرواية، وبلغةٍ عالية الإشراقات والإيحاءات، ثمّة منطوقٌ آخر تُضمره، لكنه ينكشف ويتكشّف، موجزُه إن قضية فلسطين عويصة، ومركّبة، وإن ثمة تعقيدا مضاعفا في شأن الذين بقوا في أرضهم في عام التهجير والطرد.
نقرأ "نوّار العلت"، في ذكرى النكبة التي تحلّ غدا، وفي غضون اشتعال مدن فلسطين التي احتلت قبل 73 عاما بهبّات غضبٍ عريض، واشتباكٍ متجدّدٍ مع العنصريات الإسرائيلية المقيتة. نقرأها ونصادف فيها ما يضيء على الجوهري في هذا، على استحالة اللقاء بين رواية القاتل ناهب الأرض ورواية صاحب الأرض. تذهب الحكاية التي بناها طه إلى واقعة قتل شابةٍ إسرائيلية يهودية، ابنة ضابطٍ متقاعد، أدّت الخدمة العسكرية، صارت مقتنعةً بإنهاء احتلال "المناطق" الفلسطينية، بعد أن أحبّت شابا فلسطينيا وأحبّها، كان عليه أن يكون القاتل هو أو أخوه، بحسب الشرطة التي تحقّق في لغز الجريمة شبه المعلوم، فالروائي الحاذق لم يُرد عمله بوليسيا، ولا قصةً شائقةً لواقعة قتل. لا، أراد الجريمة واضحة، عندما يتبيّن بيسر للقارئ أن القاتل هو الكاره الإسرائيلي الذي يستكثر على عربيٍّ أن تحبّه إسرائيلية، يريدها أن تحبّه ولا تفعل. والدُها لا يرتاح لعلاقتها بهذا، لكنه قلقٌ أيضا كثيرا من علاقتها بالعربي، المثقف المتعلّم، يقول، وهو المحارب السابق في الجيش في غير موقعةٍ لبنانيةٍ وفلسطينية: اسأل نفسَك: لماذا فضّلت العربي عليك، يا حمار؟
يذهب عمل محمد علي طه إلى الجريمة وانكشافها، بعد أن بسط سردا شفيفا عن حقل بطيخٍ ينام فيه صاحبه الفلسطيني الذي يعارض اتفاق أوسلو، وينشط في قيادة المظاهرات في يوم الأرض، يحميه جروٌ من الأفعى، فيما يخاف من الضبع. لا يجد عملا، وهو خرّيج العلوم السياسية، فينشغل بحقله هذا الذي على حافّته يعثر على سيارة فيها جثة الإسرائيلية اليهودية، يافا أهاروني، عشيقه أخيه الذي يختلف عنه بأنه "لا يحمل السلّم بالعرض"، ويؤمن ب"يسار صهيوني". وواحدةٌ من مزايا هذه الرواية، اللافتة التي تحفل بزوبعةٍ من أسئلةٍ غير هينة الإجابات، باديةٌ في تشخيصها التضادّ بين شخوصها، وبين منظوراتٍ متناقضةٍ إلى مسائل الحق والقوة، بين الزهو بفائض التسلح ودعاوى التفوق الحضاري على "عربٍ بدوٍ متخلفين"، قادمين من الصحراء، بين أوهام الذات الإسرائيلية عن نفسها وانتفاخها عندما تتغذّى على إلغاء الآخر وتسطيحه وتهشيم صورته، فيما الآخر الفلسطيني متسامح، قادر على الحب، ومتمسّك بقيم العدالة. الإسرائيلي قادم من الخارج والفلسطيني من هنا، مقيم في الداخل، ينام في حقل البطيخ، يحرُسه من "بنات آوى والأرانب البرّية والقنافذ والنياص والثعالب والنسانيس"، ويعمل على طرد الغربان عنه. بسطت الرواية سير كل شخصياتها، لتبيان كثيرٍ مما له غزير الدلالات والمغازي والمعاني بشأن مقابلاتٍ ممكنةٍ وأخرى ملحوظة .. وفي الأثناء، ترى أمٌّ فلسطينيةٌ عيني حبيبة ابنها، الإسرائيلية يافا، ابنة الجنرال، فتماثلهما بنوّار العلت، وهذا زهر نبتٍ برّي، لما رأته يافا في البر، فاض فرحُها به، وقطفت منه باقةً، وضعتْها في مزهريتها.. وكان نوّار العلت يبتسم لنوّار العلت. ولاحقا، عُثر عليها قتيلة، ليس فقط لأن قاتلها مريضٌ بالكراهية، وإنما أيضا لترميزٍ بعيدٍ في الرواية عن استحالة لقاء صعب .. أو ربما مستحيل.