هاني مهنا .. سلطة النشاز
ظهر العازف هاني مهنا في أحد البرامج المصرية، ليتحدث عن تجربته في السجن عام 2014. وقال إنه ذهب إلى سجن طرة، وقابل ابني حسني مبارك، علاء وجمال، ووزير داخليته، حبيب العادلي، ورجال أعمال، هشام طلعت مصطفى وأحمد عز وآخرين. انتشر مقطع من المقابلة على مواقع التواصل، وأثار استياء وحنقا كبيرا بسبب وصف هاني مهنا السجن، صالة جيم تحتوي على أحدث الأجهزة، و"سبا" (حمام معدني)، وملاعب كرة قدم، وصالات تنس طاولة وبلياردو، بالإضافة إلى الأجهزة المنزلية المتوفرة، والفائضة عن الحد، إلى درجة أن علاء وجمال أهديا له تلفزيونا وثلاجة زائديْن!
استدعت تصريحات هاني مهنا مقارنات بأحوال المعارضين في سجون النظام المصري، خصوصا سجناء العقرب، المكان، والأوضاع المزرية، واللاإنسانية، والمعاملة السيئة والمهينة، وعدم السماح بدخول أبسط الأشياء، طعام، أو مياه نظيفة، أو أغطية لبرد الزنازين في الشتاء، أو كتب. تكدّس رهيب في الزنازين، وصل إلى درجة التناوب على أماكن النوم، النوم بالدور، بالترتيب، بالطابور، في مقابل كل تلك الرفاهية والإمكانات في سجون مجرمين ولصوص وناهبي مال عام، بحكم محكمة!
لم أدهش من تصريحات مهنا، فالامتيازات التي تمتّع بها ابنا الرئيس وحاشيته، كانت واضحة، ظاهرة، بادية، على وجوههم، وملابسهم، وبنيتهم، وصحتهم، وابتسامتهم الواثقة في جلسات المحاكمة، بالمقارنة بآخرين، منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر. المدهش حقا هو "الأريحية" التي تحدّث بها هاني مهنا، "التكنيك" الذي تميز به هاني مهنا عن غيره من عازفي أم كلثوم وعبد الحليم حافظ. تحدّث هاني عن أيامه الحلوة داخل سجون ابني الرئيس، الصلاة في مسجد طلعت مصطفى المفروش بالموكيت، والتمرين، في "جيم" و"سبا" أحمد عز، ومباريات كرة القدم، مع جمال وعلاء، ومفارقتها اللطيفة، أدب جمال وعلاء، وخلق جمال وعلاء، وتربية جمال وعلاء، والظلم الذي تعرّض له جمال وعلاء، ذلك كله، لأنهم كانوا ينادونه بـ يا فنان، ويخاطبونه بقولهم: حضرتك، وهذا وحده كفيلٌ بأن يجعلهم مهذّبين ومظلومين. حاول يوسف الحسيني التغطية على "نشاز" عازف الأورغ الشهير، بطريقةٍ لا تقل كوميديةً عن التصريحات نفسها، وأظهر تعاطفا، لم يستطع إخفاء زيفه، حين أخبره مهنا أنهم كانوا 14 نزيلا يسكنون في مكانٍ يكفي لثلاثة آلاف نزيل، قال الحسيني: كنتم تشعرون بالوحدة، فبادره هاني مهنا: بالعكس، كان لدينا كل الإمكانات.
تخبرك تصريحات مهنا عن تصوّرات "أبناء الدولة" الذين يعيشون، بأعدادهم القليلة، وإمكاناتهم الضخمة والزائدة عن الحد، في بلد آخر غير الذي يعيش فيه ملايين المصريين، عن مفاهيمهم الساذجة عن الأخلاق والعدل والتديّن. يتحدّث هاني مهنا عن أحد زملائه في "بورتو طرة"، وهو ضابط شرطة في قسم المعادي، اعتدى على أحد المحتجزين بالضرب حتى الموت، يمرّ على جريمة القتل بشكل عادي، اعتيادي، عابر، كأنه يلقي السلام، أو يشير إلى أحد المعجبين، ويكمل حكاياته، ببساطة. لا يتعلق الأمر بهاني مهنا، ولا يمكن اعتباره "غشيما"، وقع في شرّ تصريحاته، من دون أن يدري. عبد الفتاح السيسي نفسه له تصريحات مشابهة، حين يخبرك ببساطة أنه يعلم أن في سجونه مظلومين، ويمرّ على ذلك، بدوره، باعتباره خطأ واردا، وعاديا، وبسيطا، تدمير حيوات، ومستقبل بشر، وبيوت، وأسر، لزوم حماية الدولة، ما المانع؟
تجيب تصريحات هاني مهنا عن أسئلةٍ متكرّرة، حول إمكانية التعايش مع الاستبداد، وتحويله إلى عاداتٍ يومية، وضرورات، وواجبات، و"شغل"، كيف يمكنهم ممارسة هذه الجرائم اليومية من دون أن يطرف لهم جفن؟ كيف يقتلون ويعتقلون ويعذّبون ويشرّدون ويتشفون ويلفقون التهم ويروّجون الإفك والكذب والزور، ثم يتحدّثون عن الشرف والأمانة والوطنية وسيادة القانون الذي لا يفرّق بين نزيل طرة وسجين العقرب؟ كيف يصل مسؤول سياسي، أو ضابط، أو صحافي، أو إعلامي، أو فنان، أو مثقف، أو رجل أعمال، أو مواطن عادي، إلى هذه الدرجة من "الحيونة"، والانحياز لها، وتبريرها، وتمريرها، واعتيادها، والتعايش معها، والمطالبة بها؟ ينحصر الأمر بين اعتياد السلطة وسلطة الاعتياد.