هذا التصحّر في العراق
يعاني العراق منذ قرابة الثلاثة أشهر من موجة غبارية لم يسبق لها مثيل، أدّت، بحسب بيانات رسمية، إلى وفاة 11 مواطنا، بالإضافة إلى مئات الإصابات اليومية، ناهيك طبعا عمّا تحمله كل موجة من مشكلات بيئية، واقتصادية، واجتماعية، ونفسية.
تفيد تقارير الأممية المتعلقة بالتغير المناخي بأن العراق يمكن أن يكون خامس أكثر الدول تضرّرا من التغير المناخي الذي يضرب العالم، كما أن قرابة سبعة ملايين عراقي لا يمكنهم الوصول إلى المياه والغذاء والكهرباء بما يسد حاجتهم. ولعل تلك التقارير لا تأتي بجديد في عراق النهرين والرافدين وأرض السواد، فالمشكلة قائمة منذ عقود، وما يحصده العراق اليوم نتيجة طبيعية لما لم يزرعه من أرض سابقا ولما لم يحافظ عليه من مصادر المياه سابقا ولاحقا، حتى بات اليوم الدولة الأكثر عرضة لتغيرات المناخ، والتي جعلت من يوميات مواطنيه صفراء فاقع لونها، تارة بسبب الغبار وأخرى بسبب الجفاف والحرّ والتصحر. .. الأشدّ والمؤلم لم يأت بعد بالنسبة للتغير المناخي في العراق، ما لم يجر تدارك الوضع البيئي الخطير، بل سيكون العراق الأكثر عرضة لتلك التغييرات التي قد تتركه صحراء قاحلة، بحسب وصف تقرير لمجلس الاستخبارات الأميركي رفعت عنه السرّية أخيرا.
أبلغ العراق، الأحد الماضي، اعتذاره للسعودية عن المشاركة في مبادرة الشرق الأوسط الأخضر التي أطلقها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وكانت تتضمن زراعة نحو ستة ملايين دونم من أراضي محافظات الأنبار والنجف والمثنى، وهو المشروع الذي تكفلت به السعودية، بحجّة عدم قدرته على توفير المياه اللازمة لهذا المشروع. وتتوالى الأخبار الحزينة من أرض السواد، فعلى مدى قرون طويلة كانت بحيرة ساوة، في صحراء النجف جنوب بغداد، من أعاجيب الزمان، فهي تتغذّى على المياه الجوفية، ولها رونق خاص لكونها وسط صحراء قاحلة، هذه البحيرة جفّ ماؤها ونضب، وصارت، هي الأخرى، امتدادا للصحاري المحيطة بها، بينما لا يزال الفيديو الذي يُظهر أحد الشباب العراقي، وهو يخوض نهر دجلة ركضا وسط العاصمة بغداد، الأشد إيلاما بين كل تلك المشاهد المأساوية في العراق.
الحرب العراقية الإيرانية، وما تبعها من انشغال العراق وما أدّت إليه من كوارث بيئية، أضاع على العراق فرصة كبيرة لتجنب الأسوأ الذي يمرّ به اليوم
قديما، عُرفت أرض العراق بأرض السواد، وفيها قال ياقوت الحموي في "معجم البلدان" عن سبب التسمية "سمي بذلك لسواده بالزروع والنخيل والأشجار، لأنه حين تاخم جزيرة العرب التي لا زرع فيها ولا شجر، كانوا إذا خرجوا من أرضهم ظهرت لهم خضرة الزرع والأشجار فيسمّونه سوادا كما إذا رأيت شيئا من بعد قلت: ما ذلك السواد؟ وهم يسمّون الأخضر سوادا والسواد أخضر".
تعود قصة بداية التصحّر في العراق إلى سبعينات القرن الماضي ، يوم أن بدأت تصل إلى بغداد موجات غبارية، صحيح أنها كانت على فترات متباعدة، غير أنها كانت مؤشّرا على ما قد يلحق بالعراق مستقبلا. حينها أصدر مجلس قيادة الثورة القرار رقم 862 في العام 1979، والذي أُجبر بموجبه كل مواطن عراقي على أن يزرع شجرة زيتون في بيته، بالإضافة إلى زراعة نخلة، وتغريم كل مواطن مخالف دينارا عراقيا يضاف إلى فاتورة الماء الشهرية، غير أن الحرب العراقية الإيرانية، وما تبعها من انشغال العراق وما أدّت إليه من كوارث بيئية، أضاع على العراق فرصة كبيرة لتجنب الأسوأ الذي يمرّ به اليوم.
عقب الغزو الأميركي، لجأت تلك القوات المحتلة إلى تجريف آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية المحيطة بجنوب العاصمة بغداد وشمالها وغربها، بحجة أنها مناطق زراعية تستخدمها المقاومة العراقية لضرب أرتال القوات المحتلة، نهج سارت عليه من بعدهم القوات الحكومية والمليشيات التي كانت تعاقب كل منطقة تخرج منها رصاصة تجاه تلك القوات بتجريف مزارعها وبساتينها، ناهيك طبعا عن تجريف الحكومات المتتالية ما بعد 2003 مئات الدونمات من الأراضي الزراعية وتوزيعها كقطع أراض سكنية على منتسبي قواتها الأمنية، من دون أدنى مسؤولية تجاه مستقبل البلاد، وما يمكن أن تتعرّض له من مخاطر لاحقة.
حوّلت إيران مجرى الأنهار داخل أراضيها، وحرمت مجتمعات عراقية كاملة من الحصول على المياه
ولعل دور دول الجوار التي تتحكّم بمياه أرض الفراتين، تركيا وإيران، لا يقل كارثيةً عن التخبط الذي تعيشه حكومات ما بعد 2003 في التعامل مع هذه القضية الحسّاسة، بل أكاد أجزم أن دول المنابع ما كانت لتجرؤ على التلاعب بما يحتاجه العراق من مياه تفرضها القوانين الدولية الناظمة للدول المتشاطئة، لو أنها وجدت أمامها حكومةً عراقيةً حريصة على مستقبل بلادها. قطعت إيران كل الروافد التي تصبّ في العراق، ما أدّى إلى تصحر آلاف الدونمات من الأراضي الزراعية، ولم تقبل إيران بالاحتكام إلى القوانين الدولية في هذا المجال. وقال وزير الموارد المائية العراقي، مهدي رشيد الحمداني، السبت الماضي، إن تركيا تقاسمت الضرر مع العراق بما يتعلق بشحّ المياه، إلا أن إيران لم تبادر إلى ذلك، بل حوّلت مجرى الأنهار داخل أراضيها، وحرمت مجتمعات عراقية كاملة من الحصول على المياه.
أجريت، ربما في العام 2010، مقابلة صحافية مع نائب رئيس الجمهورية العراقي آنذاك، طارق الهاشمي، وحينها كان نهرا دجلة والفرات يتعرّضان لنقص كبير في المياه، بسبب تخزين تركيا مياههما لملء سد أليسو. وعندما سألته عن الأمر وكيف له أن يستغل علاقته الجيدة مع تركيا لتلافي هذه المشكلة، قال إنه بالفعل، ومنذ فترة ليست قصيرة، تحرّك باتجاه تركيا لوضع حد لهذا الأمر المقلق، وأبلغه الأتراك أن العراق لا يستفيد للأسف من مياه نهري دجلة والفرات إلا بشكل بسيط، وأغلب تلك المياه تذهب هدرا إلى شط العرب، ومن ثم إلى الخليج العربي، مقترحين عليه مشروعا زراعيا ضخما لإعادة مسار النهرين قبل وصولهما إلى الخليج، للاستفادة القصوى منهما، غير أن المشروع رفضته الحكومة العراقية وقتها!