هذا التلاسُن الفرنسي الإسرائيلي
بين باريس ولندن وواشنطن، يشتدّ اشتعال معركة "معاداة السامية"، وخلال سنوات قليلة بدا بنيامين نتنياهو "كأنه" قد فرض على الغرب المعايير الإسرائيلية للسامية ومعاداتها، فإذا بالحقيقة تنكشف أمام أول اختبار حقيقي في علاقات تل أبيب وباريس. والحقيقة أن نتنياهو يصعد إلى أعلى على سلم متصدّع! فمفهوم "معاداة السامية" خلافي، حتى بين الصهاينة أنفسهم، وتبعاته السياسية أكبر بكثير من ترف النقاشات الفكرية النظرية، وعواقب الإلحاح عليه ستكون حربًا عقائدية دولية، تسعى فيها كل دولة كبرى، بقدر استطاعتها، إلى فرض "قوائم تكريم" و"قوائم تجريم" تحارب لأجل فرضها بقوة القانون الدولي. والعالم الذي تخلّص بعد "صلح وستفاليا" (1648) من التصنيفات والمعايير الدينية والمذهبية، يعود من باب "الاستثناء الإسرائيلي"، ليجعل القناعات الدينية ضيفًا غير مرغوب فيه، تم إخراجه من الباب ليعود من النافذة!
في حال لم يسفر الجدل بشأن "معاداة السامية" عن اتفاق، فإن هذا لن يوقف المدّ المتصاعد لخطاب مناهضة العنصرية الذي أصبح يضع إسرائيل في قائمة النظم العنصرية
ومن أشباح التاريخ القريب النائمة التي أيقظتها حرب غزة أخيرًا، شبح "الأبارتهايد" في جنوب أفريقيا، حيث احتفظت الأقلية الاستيطانية البيضاء بنظرةٍ عنصريةٍ ارتكز عليها النظام السياسي، حتى وصل إلى مرحلة "البانتوستانات" التي تعيد إسرائيل إنتاجها بـ "الجدار العازل". وقد شهدت العلاقات الفرنسية الإسرائيلية ملاسنةً حادّةً حول ما إذا كانت إسرائيل دولة "فصل عنصري"، على نحوٍ يؤكد أن "الاستثناء الإسرائيلي" بدأ يشكّل قضية خلافية بين باريس وواشنطن، ورد الفعل الرسمي الإسرائيلي ليس مجرّد احتجاج رسمي على تصريح رسمي، بل فزع يميني من تراجع مفاجئ في مسار الاستئساد الإسرائيلي المدفوع بموجةٍ من اتفاقيات الاعتراف والتطبيع. وفي الوقت نفسه، فإن، بعض المواقف الغربية بعد الحرب تساءلت عن حدود العقاب الذي يمكن إنزاله بإسرائيل، وليس عن استثنائها من العقاب!
وفي حال لم يسفر الجدل بشأن "معاداة السامية" عن اتفاق، فإن هذا لن يوقف المدّ المتصاعد لخطاب مناهضة العنصرية الذي أصبح يضع إسرائيل في القائمة نفسها التي تضم النظم العنصرية. وهكذا يتحطّم السياج الحامي للصهيونية، وتصبح صفحة من صفحات تاريخ العداء للإنسانية. وهكذا هي العنصرية بالمعايير الأخلاقية والمعرفية. وبعد أن ظلت الصهيونية عشرات السنين تجني ثمرة تسويق صورتها ضحية تجمع بين: الضعف والنبل والكفاءة، أصبحت صورتها صورة القوة الاستيطانية الإحلالية، المدجّجة بالأسلحة التقليدية والنووية، المدعومة بالقوى الكبرى في العالم، المحكومة بترسانة قوانين تمييزية، وهي تستعمل ذلك كله بقسوةٍ مفرطةٍ في مواجهة مدنيين محاصرين، وجاءت أعداد الضحايا من النساء والأطفال في العدوان أخيرًا على كل الفلسطينيين، لتؤكّد أن الحرب في الضفة الغربية ومدن ما يسمّى الخط الأخضر وقطاع غزة هي اختيار لم تضطر إليه بسبب إطلاق الصواريخ، بل لأنه اختيارها الذي تمليه طبيعتها "المعادية للإنسانية".
لا سبيل أمام إسرائيل لتحقيق الأمن، وفق التصور الصهيوني اليميني، إلا أن يقبل العالم وجودها دولة "فصل عنصري" تصف نفسها "اليهودية"
وفرنسا التي تعرّضت لقصف دبلوماسي إسرائيلي غير مسبوق، في مؤشّر مهم على تغير كبير، له أسبابه السياسية العميقة، هي على عكس ألمانيا مثلًا، لا تتبنّى الخطاب الأميركي/ الإسرائيلي عن ضرورة الاعتراف بإسرائيل "دولة يهودية". ومثل هذا الاعتراف يعني، بالضرورة، قبول سياسات التطهير العرقي الإسرائيلية، لكنه يعني، في الوقت نفسه، إيقاظ أشباح ما قبل "صلح وستفاليا"، وهذا أحد المحرّمات الأكثر استقرارًا في السياسة الأوروبية مئات السنين، ولا أحسب عاقلًا يمكن أن يتخيّل أن تتخلّى أوروبا عن واحد من أسس نظرتها إلى الذات والعالم لأجل إسرائيل.
وبناءً على ما تقدّم، لا سبيل أمام إسرائيل لتحقيق الأمن، وفق التصور الصهيوني اليميني، إلا أن يقبل العالم وجودها دولة "فصل عنصري" تصف نفسها "اليهودية"، ومن المضحكات المبكيات أن يأتي النقد الأكثر حدّة لإسرائيل، والتخوّف الأكثر جدّية من ممارساتها العنصرية، من عواصم غربية، بينما تفتتح الإمارات متحفًا للهولوكوست، وكأن الصهيونية كفكرة "معادية للإنسانية"، وبخاصة في نسختها اليمينية المتطرّفة، تثير قلق بعض العواصم الغربية وتكسب، في الوقت نفسه، أنصارًا في بعض العواصم العربية!