هذا الدرس في الانتخابات البلدية التركية
من بين كلّ ما جرى في المشهد الانتخابي التركي أخيراً، وتقدّم المعارضة، وبروز أحزاب جديدة إلى دائرة الضوء، جاء تقدّم حزب المساواة وديمقراطية الشعوب (ديم)، في الولايات الكردية، حدثاً تفصيلياً آخر قد يُساهم في رسم ملامح المشهديْن الانتخابي والسياسي التركييْن. وقد جاءت الانتخابات المحلية التي دخلها الحزب الموالي للأكراد عقب التراجع الحاد في مستويات التنمية في المناطق الكردية والإصرار على وضع عملية السلام الكردية التركية في الثلاجة، وقدرة الحزب الكردي على مراجعة خطابه حين خاض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية باسم حزب اليسار الأخضر، قبل عشرة أشهر، والذي وصف بأنّه كان يفتقر للتلوين القومي الكردي بالشكل الذي تحبّذه الغالبية الكردية.
بيد أنّ ما حصل في ولاية فان تحوّل إلى حدث سرعان ما تجاوز حدود هذه الولاية الكردية الطرفيّة، إذ شهدت المدن الكردية في جنوب شرقي البلاد والأحياء الكردية في إسطنبول تظاهرات مندّدة بقرار منع رئيس البلدية المركزية في الولاية عبد الله زيدان، الحائز 55% من أصوات الناخبين، وتعيين وصيفه من حزب العدالة والتنمية، المتخلّف عنه بفارق شاسع، بديلاً منه، إلّا أنّ التراجع السريع بموجب القرار الذي أصدرته اللجنة العليا للانتخابات وتثبيت فوز رئيس البلدية ساهم في تبريد الاحتجاجات، فضلاً عن أنّ وقوف سياسيين معارضين: زعيم حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزيل، ورئيس حزب السعادة تمل كرم الله أوغلو، ووزير الثقافة الأسبق في حكومة عبد الله غول حسين جيليك، وسواهم من إعلاميين وسياسيين، في وجه سياسة العزل ساهم في التراجع عن القرار، إذ إنّ حالة التصدّي لسياسة العزل بحق رؤساء البلديات الكردية قد تتحوّل إلى منطقة سجال جديدة في مستوى خطابيّ المعارضة والسلطة.
عودة زيدان إلى منصبه صبيحة اليوم التالي، واحتشاد آلاف في استقباله، ومشاهد تنظيفه شخصياً أحد الشوارع، تحوّلت كلها إلى لحظة أيقونية، فالإمساك بـ"المكنسة السحرية" وتنظيف الشوارع يشي بمعاني الانتماء للمجتمع المحلّي والاستعداد للخدمة العامة، على ما قالته وقائع تركية عن هذه المسألة الرمزية، فالرئيس أردوغان، نفسه، الذي ساهم في حملة تنظيف مرافق إسطنبول المتّسخة حين ترأّس البلدية، نجح في تعزيز هذه الصورة قبل أن ينزاح نموذج رؤساء بلديات "العدالة والتنمية" إلى التصرّف مسؤولين يفتقرون لحساسيّة المنصب التي تتطلّب شيئاً من التواضع.
شيء آخر يمكن أن يُقرأ في حادثة زيدان، مفاده أنّ الحزب الموالي للأكراد قادر على إنتاج قياداتٍ تحظى بعمق شعبيّ واسع، بعد سجن زعيمه الأكثر شعبية صلاح الدين ديمرتاش. ولعلّ مسألة إنتاج القيادات الكارزمية كان من تفصيلات المراجعات التي قام بها الحزب بُعيد الانتخابات البرلمانية الفائتة.
عزّز حزب المساواة وديمقراطية الشعوب موقعه في خريطة البلديات
أما اللافت في شعارات المتظاهرين الأكراد، واستعارتهم عباراتٍ من صندوق التسعينيات، نحو "تعيش مقاومة فان" أو حتى الاتساع في ترديد هتاف "المقاومة حياة"، وهو في الأصل شعار حزب العمّال الكردستاني الأثير منذ انطلاقته في نهاية الثمانينيات، فهو يعني أنّ تطويق الصوت الكردي بات أصعب في ظلّ مسألتين رئيسيتين. الأولى: صدمة الفريق الحكومي من هول الخسارة، لا في الولايات الكردية فحسب، بل أيضاً في المساحات التي سبق له أن بسط حضوره فيها، وعدم قدرته على استرداد الولايتين المفتاحيتين أنقرة وإسطنبول، وبفارق كبير، الأمر الذي جعل الخسارة المرتفعة في الولايات الكردية حدثاً جانبياً، وجعل من الخوض في تفاصيلها بممارسة العزل المباشر للرؤساء المنتخبين والتوسّع في ملاحقة المتظاهرين قد يزيد من إرباك الفريق الحكومي حال خروج الأوضاع عن السيطرة. فيما ترتبط المسألة الثانية بجدّية المراجعات التي قدّمها الحزب الموالي للأكراد لجهة مطالبة الطبقات الشعبية له بخطاب أشدّ تمايزاً يُعبّر عن البعد القومي الكردي. وبطبيعة الحال، كان لقرب احتفالات "نوروز"، في 21 مارس/ آذار، من موعد الانتخابات أن يمدّ الناخبين بطاقة إضافية، ذلك أنّ "نوروز" هذا العام شهد مشاركة جماهيرية ضخمة تلقّت جرعة كبيرة من الخطابات القومية الكردية وأخرى مناوئة للسلطة.
عزّز حزب المساواة وديمقراطية الشعوب موقعه في خريطة البلديات، وتمكّن من الفوز بعشر بلديات، مقارنة بثماني بلديات في انتخابات 2019 التي خاضها باسم حزب الشعوب الديمقراطي، وهي مسألة تعيد الأمل بجدوى الخطاب القومي، وتقديم مرشّحين أكثر تماسّاً مع السفح الشعبي المتضرر من سياسات الإهمال الحكومي، وذلك كلّه في ضوء اتباع الحكومة سياسة تعيين الوكلاء بدل رؤساء البلديات الأكراد الذين يعزلون عقب الانتخابات، وهي سياسة عمّقت مشاعر فقدان الثقة بالعملية الانتخابية وجدواها، غير أنّ الاحتجاجات لأجل استرداد ولاية فان، قد تتحوّل إلى نموذج شعبي يتّبعه أنصار حزب المساواة والديمقراطية في حال تعرّض رؤساء البلديات لحالات عزل كالتي حصلت عقب الانتخابات السابقة. بذلك يصبح ما جرى في "فان" أقرب إلى النموذج المُلهِم لوقف نزيف عزل الرؤساء المنتخبين، وهو الأمر الذي يضيف لنتائج الانتخابات البلدية حمولة إضافية، إذ لم تكن مجرّد انتخابات بقدر ما أصبحت مقدّمة لمسارات سياسية جديدة، يمكن التنبؤ بقليلها.