هذه الهزائم الروسية في أوكرانيا
عندما بدأت الحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022، كانت هناك سيناريوهات عدّة متوقعة حينها، وما يحدث الآن بالنسبة لروسيا أسوأ منها جميعها. ما يحدث هزيمةٌ مركّبة للقوة الروسية، وذلك حتى لو جرى الافتراض جدلاً أن موسكو نجحت لاحقاً في تحقيق تقدّم و"انتصار"، فقد أصبح هذا متأخراً جداً، ويعكس هزيمة روسية حدثت فعلاً. لو قيل، عند بداية الحرب، إن روسيا ستحتاج أكثر من تسعة أشهر للانتهاء من الحرب لبدا هذا احتمالاً غريباً، لكنّ موسكو بعد هذه الأشهر في موقفٍ أضعف.
كانت السيناريوهات المتوقعة عند بدء الحرب حسما سريعا عن طريق إسقاط نظام كييف القريب من الغرب وتنصيب نظام جديد، أو سيطرة، أو سطوة عسكرية روسية على أوكرانيا تسمح لها بإملاء رغباتها السياسية، بجعل القيادة الأوكرانية تلتزم بقائمة المسموحات والمحذورات الروسية، وفي مقدمتها الابتعاد عن حلف شمال الأطلسي (الناتو). وسيناريو ثالث كان يبدو الأسوأ، هو تكرار السيناريو الأفغاني من حرب استنزاف يتورّط فيها الروس ضد قوات غير نظامية، بعد سقوط النظام، كما حدث في حرب الأعوام العشرة (1979- 1989)، عندما هاجمت موسكو أفغانستان، وواجهتها قوات "المجاهدين" المدعومة من الاستخبارات والحكومات الغربية والعربية الحليفة حينها.
لم تحقّق روسيا أي شيء، وصارت الحرب كرّاً وفرّاً، تتبادل التقدّم فيها مع الأوكرانيين. وصارت التكتيكات والاستراتيجيات الروسية تفقد معناها سريعاً، من نوع الإعلان عن استدعاء أعداد كبيرة من الاحتياطي العسكري الروسي، لحسم حربٍ طال مداها، أو الحديث عن تدخّل دولة لنجدة موسكو وإخراجها من "الوحل الأوكراني" من مثل الحديث، أخيراً، عن تدخل بيلاروسيا في الحرب بشكل أكبر.
هناك عدة مظاهر لهزيمة روسيا، أهمها: أولاً، فشل الآلة العسكرية الروسية في فرض إرادتها وقوتها على دولة، مجاورة، ليست عضواً رسمياً في حلف الناتو، وهذا يعني أموراً مستقبلية، منها أنّ الجيش الروسي لا يمتلك الهيبة الكافية ليدعم فرض السياسات الروسية عالمياً. إذا كانت أوكرانيا تستعصي أمام هذا الجيش، فكيف سيكون الوضع في أماكن أخرى؟ ثانياً، اتضح أنّ التقنيات العسكرية الروسية غير قادرة على حسم حربٍ مقابل دولة تسليحها مختلط سوفييتي قديم، وغربي جديد بعضه طارئ، تم إمداده والتدرب عليه في أثناء الحرب.
انتقلت موسكو من التركيز على أنّ الحرب لأجل تشكيل النظام الدولي، إلى الحديث عن مقاطعات وأراضٍ
ثالثاً، فشل الخطاب السياسي الروسي، وهو ما تجسّد في انتقال الحديث من تحجيم دور حلف "الناتو" ومنع نشاطه في أوكرانيا، وتشكيل نظام دولي جديد، إلى الحديث عن ضم مقاطعات دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزاباروجيا، كما حدث نهاية الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، وهذه هزيمة مركّبة، فالحديث عن ضم أراضٍ بدا خطّة لحفظ ماء الوجه لاعتبار هذا انتصاراً روسياً، ولم تكن موسكو في الواقع تحتاج هذه الحرب لأجل هذا الضمّ، وكان يمكن القيام بحرب بالوكالة لأجلها. لقد انتقلت موسكو من التركيز على أنّ الحرب لأجل تشكيل النظام الدولي، إلى الحديث عن مقاطعات وأراضٍ. ويؤكّد هذا الحديث عن "مقاطعاتٍ" أيضاً طبيعة الخطاب القومي الروسي، وليس منظوراً دولياً لتغيير العالم، هو أمرٌ اتضح في سورية، حيث وجودها هناك لم يمنع تفاهمها مع إسرائيل، وتغاضيها عن ضرب "حلفائها" في سورية.
رابعاً، أوضحت الحرب فقر التحالفات الروسية. فشل الغرب والولايات المتحدة في دفع دول الخليج العربية، والصين، إلى اتخاذ مواقف تؤيدها في أوكرانيا وتضغط على موسكو، لكنّ الأخيرة فشلت أيضاً في الحصول على أي دعمٍ عمليٍّ صيني، أو سوى ذلك. وما الحديث أخيراً عن تدخل بيلاروسي إلّا تأكيد على فقر التحالفات الروسية، خصوصاً أنّ التدخل البيلاروسي موجودٌ منذ بداية الحرب عبر القوات والصواريخ الروسية الموجودة فعلاً في بيلاروسيا، فروسيا تدفع ثمناً اقتصادياً وسياسياً للحصول على حياد أو دعم بحدّه الأدنى، من قوى مثل الصين التي تحصل على خصومات كبيرة على أسعار الطاقة من روسيا في أثناء الحرب، فهي "تأخذ من موسكو"، و"لا تعطيها". وبالمثل، تطلب تركيا تسهيلاتٍ وأثماناً مشابهة، وتستجيب للضغوط الأميركية في وقف معاملات مالية مع الروس. والحديث عن دخول بيلاروسيا الحرب يعني كذلك تورّط دولة قريبة من "المعسكر الروسي" بدل الحديث عن امتداد الحرب لحصار نفوذ "الناتو" ودوله.
صارت الحرب كرّاً وفرّاً، تتبادل روسيا التقدّم فيها مع الأوكرانيين
أخيراً، كانت روسيا في المرتبة الحادية عشرة عالمياً في ترتيب الدخل القومي قبل الحرب، ويبلغ الدخل القومي الأميركي وحده عشرة أضعاف حجم الدخل القومي الروسي. ومن المبكّر تحليل الأثر الاقتصادي الفعلي للحصار الغربي على روسيا، فصحيحٌ أنّ موسكو حققت فائضاً تجارياً غير مسبوق في أثناء الحرب، بسبب ارتفاع أسعار النفط والغاز، لكن أيضاً بسبب تراجع الواردات بسبب العقوبات على التحويلات المالية، ومنع التصدير إلى روسيا، وهذا سيكون له أثر عميق على الاقتصاد الروسي مستقبلاً، وتشي التوقعات، مثل توقعات صندوق النقد الدولي وخبراء اقتصاد، بأنّ الاقتصاد الروسي سينكمش هذا العام (2022) بنسبة تتراوح بين 6% و10%.
كانت قوة الرئيس الروسي بوتين العسكرية تبدو الأساسية في دعم طموحه العالمي، وقد جرى اختبار هذه القوة، تكنولوجياً، من حيث الفعالية، وتكتيكياً من حيث إدارة هذه القوة، وسياسياً من حيث صياغة تحالفات وعلاقات تدعم هذه القوة وتترجمها إلى إنجازات، واتضح أنّها تفشل في ذلك كله. مع أحسن السيناريوهات التي قد تصل إليها موسكو، يتضح أنها الآن أضعف بما كانت تبدو عليه سابقاً، وهي تتّجه إما إلى هزيمة ما سيتحدّد حجمها في المرحلة المقبلة، وحتى لو استطاعت تحقيق شيء والوصول إلى وجود ما في أوكرانيا فستدخل حرب استنزافٍ صعبة، ويدرك العالم الآن أكثر محدودية قدرتها في تحقيق أثر سياسي حاسم سريع، وتعرّض السلاح الروسي لهزّة كبيرة.