في هزال بيان الخارجية المغربية بشأن العدوان على غزة
أثار البيان الصادر عن وزارة الخارجية المغربية بشأن العدوان الإسرائيلي على غزة ردود فعل كثيرة استنكرت لغته وعباراته المنتقاة التي ساوت بين المحتل المعتدي الإسرائيلي الغاصب والضحية الفلسطيني، ووصفت العدوان الغاشم على شعبٍ أعزل بأنه "أعمال عنف" و"اقتتال". وصدرت أغلب ردود الأفعال المنتقدة البيان عن هيئات سياسية ومدنية مغربية صدمها صمت الحكومة المغربية عن إدانة الحرب الإجرامية الإسرائيلية التي خلفت 43 ضحية، أغلبها من المدنيين العزّل بينهم 15 طفلاً. وفيما فضّلت أحزاب الأغلبية الحكومية، وتلك التي تساندها الصمت، صدرت بيانات قوية مندّدة بالعدوان، ومنتقدة أيضاً موقف الخارجية المغربية، عن عدة أحزاب يسارية معارضة: التقدّم والاشتراكية، والاشتراكي الموحد، وفيدرالية اليسار، والنهج الديمقراطي. كما صدرت ردود فعل قوية مندّدة بالموقف الرسمي المغربي عن هيئات سياسية ومدنية، أبرزها موقف جماعة العدل والإحسان الإسلامية، والفعاليات المغربية المساندة لفلسطين والمناهضة للتطبيع. وكان رد الفعل المثير للانتباه الصادر عن حزب العدالة والتنمية الذي وقّع أمينه العام السابق، سعد الدين العثماني، عندما كان رئيساً للحكومة، على اتفاقات التطبيع مع الكيان الصهيوني، وبرّر أمينه العام الحالي عبد الإله بنكيران موقف حزبه آنذاك بأنه يخدم "مصالح الدولة العليا". ففي بيان طويل مندّد بالعدوان ورافض للتطبيع، وصف "العدالة والتنمية" موقف الخارجية المغربية بأنه "غريب ولا يشرّف المغرب" الذي يرأس عاهله لجنة القدس. وعلى المستوى الشعبي، انتقد رواد المواقع الاجتماعية في المغرب موقف حكومتهم "المتخاذل" و"المخجل" و"المذلّ"، وهذه نعوتٌ تكرّرت في تدوينات وتغريدات اعتبر أصحابها موقف خارجية بلادهم لا يمثلهم.
وبالعودة إلى أرشيف بيانات الخارجية المغربية، وتلك الصادرة عن الديوان الملكي خلال السنوات القليلة الماضية، نجد أنها كانت تصف الاعتداءات الإسرائيلية على الفلسطينيين بـ "العدوان" و"الهجمات"، و"الاعتداء السافر" و"الهمجية" و"الجبان" و"العمل غيرَ المقبول". ولكن لغة البيانات الرسمية، منذ توقيع المغرب على اتفاقات التطبيع مع إسرائيل نهاية عام 2020، اختلفت، وأصبحت تساوي بين الضحية والجلاد، واختفت معها التبريرات التي قدّمتها السلطات المغربية أمام رأيها العام لتمرير تلك الاتفاقات، عندما اعتبرت أنها لن تكون على حساب القضية الفلسطينية، وبأنها ستتيح للمغرب لعب أدوار إيجابية في الوساطة بين الإسرائيليين والفلسطينيين لتقريب حل الدولتين، وهو الموقف الرسمي الذي تتبنّاه الدولة المغربية.
الهدف من لغة بيان الخارجية المغربية إرضاء الإسرائيليين وحلفائهم الغربيين
ولكن إذا كانت نظرة الحكومة المغربية إلى قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي قد تغيرت منذ توقيعها على اتفاقات التطبيع مع إسرائيل، فإن الموقف الشعبي المغربي من هذا الصراع لم يتغير، فأغلبية الرأي العام المغربي لا تزال مؤيدة بقوة للقضية الفلسطينية، وما زالت هذه القضية قادرة على تعبئة شرائح واسعة من المغاربة، ولولا قرارات منع الفعاليات المؤيدة للقضية الفلسطينية في المغرب، لشهدنا خروج مسيرات حاشدة مناصرة للحق الفلسطيني ومدينة للعدوان الإسرائيلي وكل المتواطئين معه. وبالرغم من كل قرارات التطبيع التي يجري فرضها على الشعب المغربي، ما زال للقضية الفلسطينية تأثير كبير على شرائح واسعة من الرأي العام في المغرب. وأكثر من ذلك، ما زالت القوى التقدّمية والديمقراطية، يسارية وليبرالية وعلمانية وإسلامية، تربط بين تأييدها القضية الفلسطينية، على اعتبار أنها قضية عادلة، ونضالها من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة في بلدها المغرب. ولذلك ما زالت القضية الفلسطينية تعدّ أكثر القضايا، بعد قضية الصحراء في المغرب، قادرة على توحيد الصفوف، ومصدراً لا ينضب لتعبئة الجماهير وإثارة ردود الفعل الشعبية والعفوية.
لقد وضع بيان الخارجية المغربية البلد الذي يرأس عاهله لجنة القدس في موقف حرج، ليس فقط أمام الرأي العام الداخلي، وإنما على المستوى الخارجي، لأنه يهزّ صورته المناصرة للقضايا العادلة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، ضارباً بذلك سنواتٍ من التراكم عزّز فيها صورته على الساحة الدولية لاعباً إقليمي موثوقاً مستقلاً ومحايداً وذا مصداقية كانت له أدوار مشهودة في السابق في عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وبين إسرائيل وعدة دول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
اختلفت لغة البيانات الرسمية، منذ توقيع المغرب على اتفاقات التطبيع مع إسرائيل نهاية عام 2020، وأصبحت تساوي بين الضحية والجلاد
الهدف من لغة بيان الخارجية المغربية إرضاء الإسرائيليين وحلفائهم الغربيين، وهو ما تسعى الدبلوماسية المغربية إلى تكريسه منذ قرار التطبيع، الخطوة التي تصفها بالإستراتيجية التي ما زال الجميع ينتظر عوائدها السياسية والاقتصادية الموعودة، لكنها تحمل بين ثناياها التخلي رمزياً عن موقف المغرب لاعباً وسيطاً، وتمسّ رمزياً صورة رئاسة عاهله لجنة القدس، مع ما قد يترتب عن ذلك من تأثير سلبي بعيد المدى على البعد الروحي الذي يبني عليه النظام في المغرب شرعيته الدينية والسياسية، بما قد يؤدي إلى تغيّر العلاقة بين السلطة والمجتمع على المدى البعيد. تدرك السلطة في المغرب مدى عمق البعد الروحي للقضية الفلسطينية في الوجدان الشعبي المغربي، وتعرف القدرة الهائلة لهذه القضية على تعبئة الرأي العام في بلدها، وكل محاولات جسّ نبض التعاطف الشعبي المغربي مع القضية الفلسطينية ستأتي بنتائج عكسية لا يمكن توقع ضررها البعيد على صورة النظام أمام رأيه العام المحلي.
لقد فشلت في السابق كل تهديدات الملك الراحل، الحسن الثاني، الذي هدّد، ذات خطاب، الشعب المغربي بتلطيخ باب بيت كل مغربي يناصر القضية الفلسطينية، في ثني المغاربة عن اعتبار هذه القضية قضيتهم الوطنية، وكانت المسيرات المليونية التي كان يسمح لها للتنفيس والتخفيف من حدّة الاحتقان الشعبي والاجتماعي، في عهد الملك الراحل، أحسن جوابٍ على تلك التهديدات التي سرعان ما كان ينساها حتى صاحبها. لذلك، وصف بيان الخارجية المغربية بـ "المهزلة" هو أقرب تعبير عن مآل مثل هذه البيانات المرتجلة التي تأتي عكس أكلها، وفيها اختزالٌ كبيرٌ لحالة الارتباك الذي تعيشه وزارة الخارجية المغربية منذ أُسندت إلى وزير بمثابة موظف يفتقد إلى الحسّ السياسي، ومستعد للقيام بكل ما يُؤمر به، لأن كل همه هو الحفاظ على منصبه، عفواً وظيفته!