هكذا تنبّأ "مهندس الجدار العازل"
قام المشروع الصهيوني على نبوءات متعدّدة المصادر، وشكّل سحر النبوءات والوعود جانبًا مهمًا من وقود حشد الجماهير، لكن الدولة سرعان ما أصبحت موضوع نبوءات عديدة بزوالها المحتوم، وأصبح الحديث عن إسرائيل "مقبرة حتميّة" أحد التعبيرات المتكرّرة في الخطاب الذي يتناول مستقبلها، وثمّة اختلاف بين النبوءات وطبيعتها، التي تكون غالبًا غيبية، وبين الاستشراف المستقبلي المتسلح بشيءٍ من المنهجية. وعندما أُبعِدَت مجموعة مقاومين فلسطينيين (مرج الزهور اللبنانية، 1993)، سجّل أحدهم، هو الشيخ بسام جرار، فيديو حقّق شهرة كبيرة، تنبّأ فيه بموعد لزوال إسرائيل. وبناء على تفسير معين لقصة موت نبي الله سليمان عليه السلام في القرآن، حدّد جرار موعد نهايتها (يونيو/ حزيران 2022)، أما مؤسس حركة حماس، الشيخ الشهيد أحمد ياسين، فيُنسَب إليه أنه تنبأ بنهايتها في 2027.
وبين كل هذه التنبؤات، تبقى نبوءة البروفيسور مارتن فان كريفلد الأكثر أهمية، وهو خبير عسكري إسرائيلي (أستاذ الدراسات العسكرية في الجامعة العبرية)، وتُرجمت مؤلفاته إلى عشرات اللغات. وفي حوار ذي أهمية استثنائية أجرته معـه صحيفة أمستاع خضيرة الإسرائيلية (8 مارس/ آذار 2002)، وضع علامـات استفهام كبيرة بشأن مستقبل إسرائيل. ومن عباراته التي أنقلها حرفيًا: "الأميركيون أنزلوا ستة ملايين قنبلة على فيتنام ولا أذكر أن هذا ساعدهم"، و"إسرائيل دخلت في مواجهة خاسرة ضمنًا، وهذه المواجهة ستُنهينا"، و"الألمان في يوغسلافيا لم يكونوا رقيقين، ولم يكن لديهم يسار، ولم يكونوا ديمقراطيين، ... ... وكان عندهم أكبر منظمّة إجرامية شهدها التاريخ الإنساني، ... ... وفي أثناء الحرب قُتل 800 ألف يوغسلافي"، و"حدث مع جيشهم النظامي ما يحدُث اليوم مع جيشنا"، "أنا أعطيك مثلًا... أنت رجل كبير وقوي، ولنفترض أن طفلًا هاجمك... حتى ولو كان خطرًا جدًا، أو مسلحًا بسكين، وقتلتَه من باب الدفاع عن النفس، عندها ستحاكم"، و"القاضي سيقول لك، وبحقّ، إن ما قمت به لم يكن في إطار الدفاع عن النفس، بل هذا قتل"، و"الشيء نفسه يحدث في العلاقات بين الأمم"، و"الطرف الآخر منتبه لهذا الوضع ... ... فأمين عام حزب الله حسن نصر الله قال إن الإسرائيليين يحبّون الحياة حبّا جمّا، كذلك قال ياسر عرفات إن اليهود أقوياء في الخارج ضعفاء في الداخل. وكلاهما صادق 100%".
حوار مع مارتن فان كريفلد مليء بالاستشرافات التي أثبتت الأيام صحّتها، بل إن بعض عباراته تبدو كما لو كانت وصفًا دقيقًا لما حدث منذ بدأت عملية طوفان الأقصى
وعندما قال له محاوره: "إذًا نحن في طريقنا إلى البحر؟"، قال كريفلد: "إذا استمرّ الوضع على ما هو عليه فإننا سنصل إلى تفكيك دولة إسرائيل"، وعن الحل مع الفلسطينيين، قال: "لا بد من فصل تام ... ... فصل مطلق على مدار جيل أو جيلين، أو وفقًا لما يحتاجه الأمر". وعندما سأله محاوره في ما يشبه الحدس: "سيقتحمون الجدار؟"، قال كريفلد: "نتحدّث عن سور كسور برلين"، و"ليكن عاليًا جدًا، حتى أن الطيور لا يمكنها أن تطير من فوقه".
وفي إجابة عن سؤال بشأن الاحتفاظ بالقدس، قال كريفلد: "الحياة أكثر قداسة من الأماكن المقدّسة"، و"ثمّة ضرورة لإعادة ميزان الردع"، و"نحتاج الفرصة المناسبة، ... ... فعل إرهابي مثير ضدنا ... ... حتى نشكّل مصداقية لرد فعلنا"، ويجب أن "تبرهن بأعمالك أنك يمكن أن تعمل كل شيء"، و"الذي لا يريد أن يمارس الجريمة لإنقاذ دولته عليه ألا يمارس السياسة". وعندما قال له محاوره: "إن الذي سيرتكب جريمة بشعة سيصل إلى المحكمة الدولية في لاهاي؟"، قال: "الناس يمكنهم أن يسامحوا على جريمة كبيرة واحدة شريطة أن تنتهي (ولا تتكرّر)"، و"الجرائم البشعة والضخمة جزء من التاريخ".
والحوار مليء بالاستشرافات التي أثبتت الأيام صحتها، بل إن بعض عباراته تبدو كما لو كانت وصفًا دقيقًا لما حدث منذ بدأت عملية طوفان الأقصى. ومن دون أي قدرٍ من التفكير بالتمنّي، فإن أحد النتائج المرجّحة ما يحدث في غزّة (استبسالًا ومعاناةً) سيكون هجرةً عكسيةً واسعةً لن يوقفها السفك الجنوني للدم الفلسطيني، وكثيرٌ مما تقوّضه المقاومة لا تستطيع أن ترمّمه (مهما بالغت في الثقة في النفس) القوة النيرانية لجيش نظامي والسطوة السياسية لتحالف غربي. وجدّية احتمال تَفَكُّك إسرائيل في الأجل المنظور من أسباب الإجرام الإسرائيلي وصفاقة الموقف الغربي.
أما نبوءة البروفيسور، الصهيوني حتى النخاع، فمحاولةٌ لا تخلو من عدمية، لمنع "دابّة الأرض" من أن تأكل المنسأة (العصا الغليظة).