هكذا لم يتكلّم مصطفى محمود
يستدعي إعلانٌ تلفزيوني جزءاً من ندوة للكاتب الراحل مصطفى محمود، وعباراتٍ له مفادها بأنه اتجه إلى العمل الخيري، بعد وقفة أمام تأليفه أكثر من 70 كتاباً، وسؤال: "هو أنا هقابل ربّنا بشوية كلام؟"، لتدور نقاشاتٌ عن احتقار مصطفى محمود الكتابة. ولو تجاوز المعلقون سياق الجملة "الإعلاني"، إلى المحاضرة الأصلية، المنشورة على قناة وزارة الثقافة المصرية على "يوتيوب"، لأدركوا أن الجملة جاءت في سياق تساؤلات تأملية في إطار الآيات من سورة الأحزاب: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يُصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما". وهو ما شرحه محمود، في ندوته في دار الأوبرا المصرية، مفرّقا بين القول والعمل، ومشيرا إلى أن ما قدّمه من قول، لو كان، افتراضا، سديدا، فيجب أن يفضي إلى عمل، وبعدها حكى محمود عن نقاشاته عن هذا المعنى مع أحد أقرب أصدقائه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب واختلاف عبد الوهاب معه، وحكى محمود رأي عبد الوهاب كاملا، من دون انتقاصٍ منه أو من صاحبه، بسطا لوجهتي النظر، ووجهي النقاش، أمام جمهور الندوة، ومنهم محمد الغزالي، ومحمود أمين العالم، وأحمد هيكل، وغيرهم من أصدقاء مصطفى محمود "الكُتّاب"، الذين فهموا مراده في سياق الندوة. وفي سياق فهمهم تجربة مصطفى محمود نفسها، وهي المعايير "النزيهة" لتقييم أية فكرة أو جملة أو تصريح قد يحتمل تعدّد المعاني.
جاءت أغلب التعليقات، خصوصاً تعليقات الكُتاب، زاعقة، تدين مصطفى محمود، وفكرته، كما فهمها المعلقون، لا كما أرادها صاحبها، ثم أفكاره وكتبه ومشروعه برمّته، بوصفه أسلمة في غير موضعها، ودجلاً ودروشة تليق بخطابات دولة أنور السادات وزمانه.. إلخ. والمفارقة أنه كلما ابتعد المعلق عن زمان مصطفى محمود حضوراً ومعايشة، كان تعليقه أكثر صراخا ووثوقية، فيما كان الاقتراب من زمان إنتاج كتابات مصطفى محمود قرينا لأغلب التعليقات الهادئة، وأصحابها الذين اكتفوا بالتساؤل حوّل معنى أن يرى كاتب غزير مثل مصطفى محمود في الكتابة شيئاً لا يستحق أن يلقى به ربه.
ثمّة موضوعات لا يسعها مجرّد التأمل، وثمة موضوعات لا يسعها، بل لا يوسع لها، سوى التأمل. من هنا تأتي كتابات محمود، التي وصفها صاحبها، بنفسه، بأنها توثيق لرحلته وتجربته المادية والروحية في البحث عن معاني الوجود، الله والإنسان والكون وما بعد الموت، بل زاد صاحبها، في مذكراته التي نشرها الكاتب السيد الحراني، بأن رؤيته هي رؤية الشاعر والفنان، لا الشيخ أو الفقيه أو المفكّر، ولا معنى هنا لمحاكمة كتابات وجودية، تأملية، بمعايير الكتابة الأكاديمية، أو تعيير تجارب روحية بمعايير التجارب المعملية، إلا إذا كان "المعيّرون" يبحثون عن أسباب وجيهة للصراخ.
لا تدلّنا "خناقة" مصطفى محمود عنه، ولا عن كتبه، ولا عن أفكاره وتأملاته، ولا حتى عن انحيازاته السياسية والدينية والفنية، التي كانت في "كل" مراحل حياته، على تنوّعها، في جانب حرية القول والفعل والخطأ والتجريب، كما كانت في السرديات الكبرى في حياتنا لصالح الإنسان، حصرا، وهكذا دارت رؤاه ومواقفه وتأملاته حول الله والإنسان والدين والعلم والفن... وحتى مواقفه السياسية وانحيازاته، سواء في عصر السادات الذي حذّر فيه السادات، نفسه، من خطورة استخدام الدولة الحركات الإسلامية أو تحالفها معها أو تبنّي مقولاتها التي لا تعبر عن الإسلام، وفق رؤية محمود، أو موقفه من معاهدة السلام التي رآها مع هذا "الكيان" كما كان يطلق عليه، غير ممكنة، وإن لم يشكّك في نيات السادات بحكم الصداقة القديمة ودعم السادات له في أزمة مصادرة كتابه الأول بدعوى الإلحاد، ثم وقفه عن الكتابة بأمر من الرئيس جمال عبد الناصر، إلى موقفه الجذري الداعم للقضية الفلسطينية، كما عبّر عنه مرارا، خصوصاً في الندوة التي جرى اجتزاء عبارة الإعلان التلفزيوني منها. إنما تدلّنا "الخناقة" إلى أصحابها، إلينا، هنا والآن، وإلى حاجتنا، الملحّة، للصراخ.