هل أخطأت "حماس" بمشاركتها في انتخابات 2006؟
من يتابع بعض نقاشات مقرّبين من حركة حماس ومتعاطفين معها يلاحظ أن كثيرين منهم يتجاوزون في انتقادهم كيفية تعاطيها مع "الحوار الوطني الفلسطيني" الذي انعقد في القاهرة، مطلع شهر فبراير/ شباط الجاري، إلى انتقاد أصل مشاركتها في الانتخابات التشريعية عام 2006، وقبولها بالعمل السياسي من خلال مؤسسات السلطة الفلسطينية. كان صاحب هذه السطور قد انتقد، أيضاً، في مقال الأسبوع الماضي، في "العربي الجديد" (19/2)، نتائج حوار القاهرة، وتركيزه على إجراء انتخاباتٍ تشريعيةٍ ورئاسيةٍ وللمجلس الوطني، من منطلق هاجِسُهُ أنها ستعمق الانقسام الفلسطيني. واعتبر المقال أن "حماس"، المُثْقَلَةَ بعبء قطاع غزة المحاصر، وربما بدافع منافساتٍ انتخابيةٍ تنظيمية قادمة، قبلت بشروط، يعتقد كثيرون أنها لا تصب في مصلحة إنهاء الانقسام، بل إنها، على الأرجح، ستعوق نجاح الانتخابات والمصالحة بينها وبين حركة فتح.
ثمَّة فارق بين انتقاد أسلوب تعاطي "حماس" مع الأزمة الفلسطينية – الفلسطينية المستحكمة، والتي هي نتاج بائس لاتفاقية أوسلو، وما ترتب عليها من سلطة مرتهنة لمصالح المُحْتَلِ واشتراطاته، وبين وجود ضرورة ضاغطة على فصائل العمل الوطني للتعامل مع إكراهات الواقع. لم تكن "حماس"، ولا أي فصيل آخر، هم من نصب فَخَّ "أوسلو" للشعب الفلسطيني عام 1993. ذلك كان قرار حركة فتح التي سطت على القرار الوطني الفلسطيني منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، وما زالت تمارس الوصاية عليه. وسواء أقبل بعضهم أن يعترف بذلك أم لا، فإن قيادة "فتح"، التي تقود السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية، تمَّ تطويعها عبر عقود طويلة لتصبح جزءاً من النظام الرسمي العربي المَرْضِيِ عنه من الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، واستتباعاً إسرائيل.
ما بين أعوام 1994 و2000، استغرقت السلطة الفلسطينية في حماية أمن إسرائيل، حتى وهي تمنع الفلسطينيين أقل حقوقهم وتتنكر لاتفاقاتها معهم، ولم تكن أجهزة أمن السلطة أقل بطشاً من أعتى الأنظمة العربية قمعاً، كسورية وتونس حينها. ونذكر كيف نكّلت الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي أشرفت على تدريبها الولايات المتحدة، بفصائل المقاومة، وبالشعب الفلسطيني عموماً. قامت الأجهزة الأمنية الفلسطينية بذلك، ولا تزال، بتواطؤ تام مع إسرائيل. وعندما أدرك الرئيس الراحل ياسر عرفات، رحمه الله، عام 2000، أنه قد أوقع الشعب والقضية في فخ مُحْكَم، حاول أن يتمرّد على ذلك، وأن يعيد ترسيم قواعد اللعبة، فكانت النتيجة أن حوصر إسرائيلياً في مقر المقاطعة في رام الله، أواخر عام 2001، ولم يخرج منها إلا وهو ينازع الموت أواخر عام 2004. الجدير بالذكر هنا أن كثيرين من رموز السلطة الحالية كانوا ممن تنكروا لعرفات خلال فترة حصاره، وفي مقدمتهم محمود عباس نفسه الذي جيء به وريثاً له. كما أن من المهم أن نُذَكِّرَ بأن أنظمة "محور الاعتدال" العربي ساهمت، في سنوات عرفات الأخيرة، في حصاره والضغط عليه، للتخلي عن رئاسة السلطة لصالح عباس. وهو ما تفعله اليوم مع الأخير لصالح محمد دحلان، بعدما اصطدم عباس بالحائط، ولم يعد قادراً على تقديم مزيدٍ من التنازلات.
أنظمة "محور الاعتدال" العربي ساهمت، في سنوات عرفات الأخيرة، في حصاره والضغط عليه، للتخلي عن رئاسة السلطة لصالح عباس
مع وفاة عرفات، كانت السلطة الفلسطينية منهكةً جرّاء الحصار والضربات الإسرائيلية المتلاحقة خلال سنوات انتفاضة الأقصى، كما كانت أجهزتها الأمنية تعاني تفكّكاً وضعفاً. أيضاً، كانت حركة فتح منقسمة على ذاتها ومشرذمة، ولم يكن وريث عرفات، أي عباس، يحظى بقبول واسع لدى الشعب الفلسطيني، ولا حتى داخل "فتح". الحقيقة هي الحقيقة. إنه لا يملك كاريزما، وهو ليس مصدر إلهام، فهو كما قال أمين السر الأسبق للجنة المركزية لحركة فتح فاروق القدومي، لم تتغبر ملابسه يوماً في خنادق المقاومة. الإحالة هنا واضحة، عباس لا يملك رصيداً نضالياً، وقد تمَّ الدفع به حينها، إسرائيلياً وأميركياً، ومن "محور الاعتدال" العربي، ليكون زعيماً على شعبٍ الشرعية عنده مشروطة بالسجل النضالي لصاحبه.
"حماس"، القطب الثاني في الساحة الفلسطينية، والمعادل الموضوعي لحركة فتح، كانت تدرك مأزق السلطة الفلسطينية بعد وفاة عرفات، ومأزق "فتح"، ومأزق عباس نفسه. ولذلك، عندما جاءها هذا الأخير متوسّلاً العون، مدّت له يدها، ولم ترشح أحداً ضده، ولا حتى دعمت أحداً مقابله في الانتخابات الرئاسية عام 2005. ربما تعشّمت "حماس" حينها أنه يمكن إجراء إصلاحات جوهرية في بنية السلطة، القمعية والفاسدة، بسبب معضلة الشرعية التي كان عباس يعاني منها ويطلبها حثيثاً. لم تكن "حماس" غافلةً عن أنه لا إسرائيل، ولا الغرب، ولا الأنظمة العربية، ولا حتى "فتح"، في وارد قبول رئيس منتم إليها، أو قريب منها. ربما كان خطأ "حماس" أنها راهنت على "أخلاقياتٍ وطنية" عند عباس، ولكن الرجل كان وفياً لقناعاته التي لا ترى أفقاً فلسطينياً من دون رضى إسرائيلي.
على مدى خمسة عشر عاماً من الحصار لم تتنازل "حماس" عن مبادئها وأيديولوجيتها. لم تعترف بإسرائيل، وراكمت معها حالة من الردع المتبادل
بسرعة، أخذ عباس مكانه في نادي الطغاة العرب. بدأ أولاً بالتلاعب بتواريخ عقد الانتخابات البلدية، مخافة أن تخسرها "فتح" أمام "حماس". ثمَّ بدأ يتلاعب بمواعيد الانتخابات التشريعية للسبب ذاته، لولا أن إدارة جورج بوش الابن، التي كانت مهتمة، حينئذ، بتسويق "أجندة الحرية" في الشرق الأوسط، ضغطت عليه وعلى إسرائيل لإجرائها. لم تتحسّب إدارة بوش لخسارة "فتح" وانتصار "حماس". ولم تتوقع "حماس" أن تجري الانتخابات بحريةٍ وشفافيةٍ تؤهلها لذلك الفوز الكاسح. ولم يكن في واردها تشكيل الحكومة. كل ما طمحت إليه هو تعديل مسار السلطة الفلسطينية وضبطه من خلال المجلس التشريعي. تعلم "حماس" أن السلطة أمر واقع ضمن معادلة إسرائيلية وإقليمية ودولية. هذا لا ينفي أن تكون "حماس" قد أخطأت الحسابات في تصدّرها لتشكيل الحكومة ورئاستها عام 2006. وجميعنا يعلم ماذا ترتّب على ذلك بسبب ألاعيب عباس و"فتح" والعقبات التي وضعوها في طريق حكومة إسماعيل هنية. قبل أشهر قليلة، نشرت لي دراسة أكاديمية مُحَكَّمَةُ في مجلة "سياسات عربية" توثق الدور الأميركي في نسج خطوط المؤامرة ضد حكومة هنية، وتواطؤ عباس و"فتح" وأجهزة السلطة فيها مع إسرائيل وأنظمة عربية، بشكلٍ قاد إلى الصدامات الدموية في قطاع غزة عام 2007 وسيطرة "حماس" عليه.
تورّط قيادة "فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية، عام 1993، في إقامة سلطة تحت حراب الاحتلال كان خطأً استراتيجياً كارثياً، وهي قد مضت فيه وحدها، وفرضت واقعاً على الجميع. الحقيقة المُرَّةُ، أنه منذ قيام السلطة الفلسطينية لم يعد قرار بقاءها فلسطينياً بحتاً، ولم يعد قرار إلغائها فلسطينياً بحتاً كذلك. كما سبق القول، لقد أضحت جزءاً من معادلة إسرائيلية وعربية ودولية. وساهم أسلوب "فتح" في إدارتها في ترسيخ دور الوكيل المناط بها، ومن أراد تغييره، أو إلغاءه، فإن ثمناً فادحاً ينتظره. جرّب ذلك عرفات، وجرّبت ذلك "حماس"، ورأينا النتيجة. ومع ذلك، يبقى السؤال قائماً، ما هي الخيارات المتاحة فلسطينياً أمام معضلةٍ كهذه؟ أيكون الحل في انسحاب "حماس"، الفصيل الموازي لحركة فتح، من المشهد، وترك إدارته لمن تقول إنهم يفسدونه؟
أضحت السلطة جزءاً من معادلة إسرائيلية وعربية ودولية. وساهم أسلوب "فتح" في إدارتها في ترسيخ دور الوكيل المناط بها
كثيرون ممن يصرّون على أن "حماس" ارتكبت خطيئةً بدخولها معترك الصراع على "سلطة أوسلو"، بذريعة أنها وقعت ضحية النقيضين: المقاومة أم السلطة، لا يريدون الإجابة عن الأسئلة التالية: ماذا لو لم تدخل "حماس" معمعة السلطة، هل كانت قيادة السلطة الفلسطينية وأجهزة أمنها ستدعها وشأنها تقاوم؟ وهل المقاومة قادرة على تحرير فلسطين ضمن معطيات الراهن وموازين القوى فيه؟ وهل المقاومة عمل عسكري فقط من دون استيعاب السياقات المحلية والإقليمية والدولية؟ وهل المقاومة العسكرية أبدية، من دون محطاتٍ للتقييم، والتفاوض، والتهدئة؟ يريد كثيرون لعن تجارب الآخرين وتنازلاتهم، لكنهم لا يريدون وضع أنفسهم في تعقيدات وضعياتهم، ليعلموا إن كان في وسعهم أن يقودوا بشكلٍ أفضل، أو إن كانوا قادرين على الجمع بين السقوف العليا والسياسات المبدئية المرنة. بمعنى، يرتاح هؤلاء إلى الاسترسال في تعريف وتفصيل ما يقفون ضده ويرفضونه، ما دام من دون أثمان، ولكنهم عاجزون عن صياغة ما الذي يؤمنون به ويريدونه ضمن إكراهات الواقع والحدود الدنيا. وبهذا، يبقى من يُدينُ الجميع أداءهم السياسي والوطني متسلطين على القرار، غير مكترثين بضجيج الناقدين السلبيين.
في مقال لي في "العربي الجديد" (5/5/2017)، كتبت: "تطور الفكر السياسي بحاجة إلى البراغماتية في المسار والتصلب في الإيديولوجيا .. ومن تفاعلهما يتطوّر الأفراد والحركات والدول والأمم .. كل حياتنا، حتى الشخصية منها، هي حصيلة هذين التفاعليْن، الطموح (المبدأ/ الإيديولوجيا)، والواقع (الضرورة/ التحدّي)، ومن يقول غير ذلك يعيش في أوهامه وهوامشه". بغض النظر عما إذا كان بعضهم يرى هذا إيجابياً أم سلبياً، إلا أنه على مدى خمسة عشر عاماً من الحصار لم تتنازل "حماس" عن مبادئها وأيديولوجيتها. لم تعترف بإسرائيل، وراكمت معها حالة من الردع المتبادل، وتصدّت لاعتداءاتها الهمجية على قطاع غزة، وأرغمتها على قبول هدن معها مرّات ومرّات. .. شخصياً، لدي ملاحظات كثيرة على ممارسات لـ"حماس" وعلى كفاءة كثيرين من قياداتها، وعلى فسادٍ بدأ يطل من داخلها في قطاع غزة المحاصر. ولكن كفلسطيني، مهما كان موقفي منها، أدرك أن جذر الخلل، فلسطينياً، يبدأ بقيادة "فتح"، من دون أن ألغي سياق الإكراهات الإسرائيلية والعربية والدولية. فارق بين أصل المرض وعارضه. هذا لا يعني تجميلاً للعارض، ولا يعني أن عارض المرض قد لا يصبح أخطر منه، إن لم يتم التعامل معه بحذر. هذا موضوع آخر.