هل أخطأت إيران الحساب؟
رغم تباطؤ إيران في العودة إلى مفاوضات البرنامج النووي بعد توقفها عشية الانتخابات التي جاءت بإبراهيم رئيسي إلى السلطة صيف العام الفائت، ونصائح المرشد للحكومة الجديدة بعدم رهن سياساتها الاقتصادية - الاجتماعية بفرص إحياء الاتفاق النووي ورفع العقوبات الأميركية، الا أن الدلائل كانت تشير الى أن حكومة رئيسي لا تملك أي خطة بديلة لتحسين الأوضاع الاقتصادية المتفاقمة ومواجهة الاحتجاجات الشعبية المتزايدة، بعيدا عن مفاوضات فيينا. إدارة بايدن، بدورها، جعلت إحياء الاتفاق النووي أولوية في سياستها الشرق أوسطية، لافتقارها إلى خطة بديلة لمواجهة تقدم برنامج إيران النووي في ضوء عزوفها عن خوض مواجهة عسكرية جديدة في الخليج، تأخذ انتباهها بعيدا عن التحدّي الاستراتيجي الأكبر الذي بات يواجهها (الصين). وبالفعل، بدا مطلع مارس/ آذار الماضي أن اتفاقا صار في متناول اليد، وأن الإعلان عنه بات وشيكا، بعد أن تخلت واشنطن عن شرط اشتمال المفاوضات على برنامج إيران الصاروخي. ورغم الصدمة التي شكّلها الطلب الروسي المفاجئ بإعفاء المعاملات التجارية الروسية مع إيران من العقوبات الغربية التي فرضت على موسكو بعد غزو أوكرانيا، تعاملت واشنطن مع الأمر سريعا، كما أوضح وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف. مع ذلك، لم تستأنف المفاوضات بتاتا بعد جولة 11 مارس، وصار الاتفاق بعدها في مهبّ الريح، فما الذي جرى؟
من الواضح أن اتفاق إيران النووي كان ضحية حساباتٍ خاطئةٍ مرتبطةٍ بتداعيات الحرب في أوكرانيا، ذلك أن إيران اعتقدت، بعد أسبوعين من اندلاعها في 24 فبراير/ شباط الماضي، وبعد سلسلة العقوبات الأميركية والأوروبية غير المسبوقة على موسكو، أنها باتت في موقعٍ يسمح لها بفرض شروط جديدة في فيينا، حتى من خارج الاتفاق النووي.
كانت العقوبات الغربية على روسيا بدأت تلقي بظلها على أسواق النفط العالمية، وأخذت الأسعار المرتفعة أصلا تلفح الناخب الأميركي الذي بدأ يصبّ جام غضبه على إدارة بايدن التي راحت تبحث عن مصادر بديلة للنفط، بعد أن فشلت ضغوطها على دول أوبك (السعودية خصوصا) لزيادة الإنتاج. بلغ اليأس بإدارة بايدن مبلغا دفعها إلى اللجوء إلى خصم عنيد مثل فنزويلا، لإعادة تأهيل صناعتها النفطية وزيادة الإنتاج، كما بلغت الرغبة في إذلال موسكو وإخراجها من سوق الطاقة العالمية حدّا دفع واشنطن إلى التغاضي عن تهريب إيران نفطها، فوصلت صادراتها إلى نحو مليون برميل في إبريل/ نيسان الماضي، مستغنية بذلك عن أهم أداة ضغط تملكها في المفاوضات.
وفي ظل صعوبة التفاوض مع فنزويلا، والوقت الذي يستغرقه تأهيل منشآتها النفطية، وفي ضوء تملّك السعودية الرغبة في الانتقام من بايدن، ظنّت إيران أن في وسعها الآن فرض شروطها على واشنطن، والدفع لرفع كل العقوبات عنها، بما فيها التي لا علاقة لها بالبرنامج النووي، فوضعت على الطاولة شرط رفع الحرس الثوري عن قائمة الإرهاب الأميركية لإحياء الاتفاق النووي. لوهلةٍ بدا أن إستراتيجية إيران تنجح، فالرئيس بايدن يريد إعادتها سريعا إلى سوق الطاقة العالمي، وبدا لذلك مستعدّا لمناقشة الأمر. لكن تحوّل الموضوع إلى قضية أميركية داخلية مع اقتراب موعد الانتخابات النصفية غيّر المشهد كليا، إذ وجد مستشارو بايدن أن إدارته لن يكون بمقدورها تحمّل الثمن السياسي لرفع الحرس الثوري عن قائمة الإرهاب، بما في ذلك المخاطرة بتمرّدٍ من داخل حزبه. وعليه قرّر بايدن أن يقدّم التنازلات للسعودية بدلا من إيران، باعتبار أن ذلك أقل كلفة، رغم اعتراضات دوائر مختلفة، بما فيها من يسار الحزب الديمقراطي، لاعتباراتٍ مرتبطةٍ بسجل حقوق الإنسان في السعودية.
وبناء على اتفاقٍ جرى التوصل إليه في ختام مفاوضات أميركية - سعودية جرت في الرياض وواشنطن، وافقت السعودية على التخلي عن اتفاقها النفطي مع موسكو، ورفع إنتاج النفط في يوليو/ تموز وأغسطس/ آب المقبلين. في مقابل زيارة لبايدن، الرياض تفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين... من الواضح أن إيران بالغت بشأن قدرتها على استغلال مأزق بايدن النفطي، وأساءت فهم الوضع الداخلي الأميركي، وفوّتت بذلك فرصة مهمة للتوصل إلى اتفاق مع واشنطن يسمح لها برفع العقوبات، وفتحت فوق ذلك بابا لتصعيد كبير في المنطقة، قد يكون الأخطر منذ غزو العراق عام 2003.