هل اقترب الصدام الحتمي بين السياستين الأميركية والإسرائيلية؟
انشغل العقل العربي طويلاً بخصوصية العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل وشذوذها، ما أسفر عن ظهور نظرياتٍ تفسيريةٍ عديدة لهذه الظاهرة، أهمها اثنتان: النظرية الوظيفية ونظرية اللوبي الصهيوني. تفسّر الأولى خصوصية هذه العلاقة، استناداً إلى دورٍ تعتقد أن إسرائيل وجدت أصلاً للقيام به، وهو فصل المشرق العربي عن مغربه، وتشكيل حاجز أو عازل بشري وجغرافي يحول دون قيام دولة عربية أو إسلامية كبرى وموحدة في هذه المنطقة الحيوية من العالم. أما الثانية فتفسر هذه الخصوصية استناداً إلى قوة "لوبي صهيوني" ونفوذه، وتعتقد أنه يمتلك سيطرة شبه مطلقة على المفاصل المالية والاقتصادية والصناعية والإعلامية والفكرية في الولايات المتحدة الأميركية، ومن ثم لديه من الأدوات والوسائل والآليات ما يمكّنه من النفاذ إلى قلب عملية صنع القرار الأميركي على اختلاف مستوياتها، وبالتالي توجيه القرار الأميركي في مختلف المجالات لخدمة المصالح الإسرائيلية، حتى لو تعارضت مع المصالح الأميركية نفسها. ويبدو واضحاً من هذا الطرح أننا إزاء نظريتين تقفان على طرفي نقيض، فبينما تبدو إسرائيل، في سياق "النظرية الوظيفية"، مجرّد أداةٍ تنفذ ما تمليه عليها الإدارة الأميركية، تعود لتظهر، في سياق "نظرية اللوبي"، وكأنها قادرةٌ، في الوقت نفسه، على توظيف مصادر القوة الأميركية الهائلة لمصلحتها الخاصة، وذلك من خلال الدور الذي يقوم به اللوبي الصهيوني من داخل مراكز صنع القرار الأميركي. وعلى طول المساقة الممتدة بين هاتين الأطروحتين المتناقضتين، ظهرت أطروحات أو اجتهادات تفسيرية أخرى، تمزج، بدرجاتٍ متباينةٍ، بين هذه النظرية أو تلك، لكنها تصب جميعا في اتجاه واحد، أن الولايات المتحدة وإسرائيل وجهان لعملة واحدة.
حين حققت إسرائيل انتصارها المدوي على عدة جيوش عربية مجتمعة في 1967، ترسّخت أكثر صورة الإعجاب بها دولة شجاعة قادرة على كسر الحصار المضروب حولها
هذا عن الجانب العربي، فماذا عن الجانب الأميركي؟ هل يعترف العقل الأميركي بغرابة هذه العلاقة وشذوذها؟ وكيف يفسّر هذه الحالة غير الطبيعية؟ هل ينسبها إلى سطوة اللوبي الصهيوني وسيطرته على آليات صنع القرار الأميركي؟ وهل يستكين أو يستسلم لها إن اعترف بها؟ أم أنه على العكس يرى في إسرائيل أداةً مفيدةً يمكن تسخيرها لخدمة أهداف (ومصالح) الولايات المتحدة بوصفها قوة مهيمنة على النظام الدولي؟ وهل تتسم الرؤية الأميركية لهذه المسألة بالجمود أم أنها قابلة للتطور؟
في وسع المتأمل لمسار العلاقات الرسمية والمجتمعية بين الولايات المتحدة وإسرائيل أن يلحظ وجود تيار رئيسي داخل المجتمع الرئيسي ينظر إلى هذه العلاقة بإيجابية كبيرة، ولا يرى فيها شذوذاً، وهو تيار عريض، يشمل الحزبين الكبيرين، الجمهوري والديمقراطي، معاً، ومعظم شرائح (وقطاعات) النخبة الأميركية، على اختلاف انتماءاتها السياسية والفكرية ومواقعها المهنية. فعلى مدى عقود طويلة، استقرّت صورة إسرائيل في العقل الأميركي دولة صغيرة محاطة بالأعداء من كل جانب، أو واحة للديمقراطية وسط صحراء الاستبداد الشرقي، أو دولة تؤوي شعباً عانى كثيراً من الاضطهاد والشتات، ونصبت له محرقة كبرى على يد النظام النازي بين الحربين العالميتين. وحين تمكّنت إسرائيل من تحقيق انتصارها المدوي على عدة جيوش عربية مجتمعة في حرب عام 1967، ترسّخت أكثر صورة الإعجاب بإسرائيل دولة شجاعة قادرة على كسر الحصار المضروب حولها، والتسلح بأدوات القوة اللازمة لحماية أمنها، وليس دولة توسّعية تستهدف الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة المسلحة. لذا اتسمت المواقف والسياسات الأميركية طوال هذه العقود، وعلى الصعيدين الرسمي والشعبي، بالانحياز المطلق لإسرائيل، فحتى في اللحظات النادرة التي ظهر فيها بعض التباين في المصالح بين الدولتين، مثلما حدث إبان أزمة السويس عام 1956، بدا الموقف الأميركي حينها مدفوعا أصلا بالرغبة في معاقبة فرنسا وبريطانيا وليس إسرائيل. لذا يمكن القول إن الانحياز الأميركي لإسرائيل ظل ثابتاً ومطلقاً في كل الإدارات، حيث بدت مصالح إسرائيل، دوماً وفي كل العهود، مصلحةً مجتمعيةً تعلو على كل المصالح الحزبيةّ.
تحول ملحوظ في المزاج الأميركي تجاه دولة إسرائيل وسياساتها العدوانية والعنصرية
غير أنه لا ينبغي لهذه الصورة العامة، على الرغم من صحتها، أن تطمس معالم تحوّلٍ راح يشق لنفسه، ومنذ فترة ليست قصيرة، طريقاً داخل مجرى الحياة السياسية الأميركية. صحيحٌ أن هذا التحول ظهر، في البداية، أصواتاً منفردة تغرّد خارج السرب، غير أنه سرعان ما تبيّن أن لهذه الأصوات جذوراً وقواعد مجتمعية قادرة، ربما بفضل تعنّت السياسات الإسرائيلية، على أن تصنع تياراً يمكنه أن يشقّ لنفسه أخدوداً داخل الصخور الصلبة للمجرى الصعب. وفي تقديري، سار التحول الذي طرأ على مزاج الرأي العام الأميركي تجاه إسرائيل عبر مسلكين:
الأول: انكشاف سطوة اللوبي الصهيوني وتجاوزاته. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى الدور الذي لعبه السناتور الجمهوري الراحل، بول فيندلي، حين خاض، بداية الثمانينيات، معركة شرسة ضد هذا اللوبي الذي أصرّ على إسقاطه، ونجح في هذا، وحال دون استعادته مقعده في الكونغرس عام 1982، لكن كتابه “They dare to speak out: People and Institutions Confront Israel’s Lobby”، والذي كشف فيه عن الأساليب المستخدمة في ابتزاز المعارضين للسياسات الإسرائيلية وتشويههم، أثار جدلاً هائلاً في الأوساط السياسية الأميركية، وتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً لسنوات. كما يمكن الإشارة أيضاً إلى الدور الذي لعبه على الصعيد الأكاديمي أستاذان بارزان في العلاقات الدولية، جون ميرشايمر، من جامعة شيكاغو، وستيفن والت، من جامعة هارفارد، واللذان خاضا معركةً أكثر شراسةً عقب نشر مقالتهما المطولة عن اللوبي الإسرائيلي عام 2006، والتي تحولت فيما بعد إلى كتاب بعنوان: The Israel Lobby and the U.S Foreign Policy. كشفت هذه الدراسة العلمية الدقيقة عن أساليب اللوبي الصهيوني للسيطرة على عملية صنع القرار في كل ما يخصّ السياسة الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط، ولتسخير هذه السياسة في خدمة المصالح الإسرائيلية، حتى لو تعارضت مع المصالح الأميركية. وقد استطاعت هذه الدراسة أن تفجّر نقاشاً شديد الأهمية، لفت نظر النخب السياسية والأكاديمية داخل الولايات المتحدة وخارجها إلى أساليب اللوبي الصهيوني في الهيمنة على عملية صنع القرار الأميركي في السياسة الخارجية.
الثاني: سقوط الأقنعة عن طبيعة الدولة الإسرائيلية دولة عدوانية توسعية، تعرقل الجهود الرامية إلى التوصل إلى تسوية سياسية عادلة للقضية الفلسطينية. وعن طبيعة نظامها السياسي، نظاماً يتجه تدريجياً نحو الفصل العنصري والأبارتهايد. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، كان أول من أشار في كتابه "Peace not Appartheid" إلى الطبيعة العنصرية للنظام السياسي الإسرائيلي، الرافض إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وذلك قبل وقت طويل من نشر منظمة هيومان رايتس واتش، أخيراً، تقريرها السنوي الذي وثقت فيه، وبطريقة لا تقبل الجدل، الطبيعة العنصرية للنظام الإسرائيلي.
استقرّت صورة إسرائيل في العقل الأميركي دولة صغيرة محاطة بالأعداء، أو واحة للديمقراطية وسط صحراء الاستبداد الشرقي
لا يتسع المقام هنا لتحليل تفصيلي عن مظاهر التحول الملحوظ في المزاج الأميركي تجاه دولة إسرائيل وسياساتها العدوانية والعنصرية، غير أنه قد يكون مفيداً الإشارة هنا إلى مقالة شديدة الأهمية، كتبها البروفيسور ستيفن والت، ونشرتها مجلة فورين بوليسي، يوم 27 مايو/ أيار الماضي، أي بعد توقف الحرب الإسرائيلية أخيراً على قطاع غزة مباشرة، تحت عنوان "حان الوقت لإنهاء العلاقة الخاصة مع إسرائيل". ولأنها تكفي وحدها لقياس عمق التحوّل الذي طرأ على المزاج الأميركي، تستحق أن نلخص أهم ما ورد فيها من أفكار:
خلص والت، في المقالة، إلى أن "الانتهاكات الإسرائيلية الأخيرة تجاه الفلسطينيين قدمت مزيداً من الأدلة على أن واشنطن يجب أن توقف الدعم الاقتصادي والعسكري والدبلوماسي غير المشروط لإسرائيل، لأن فوائد تلك السياسة صفر، والتكاليف باهظة، وما تزال في ارتفاع". ويشرح مبرّراته: ربما كانت العلاقة الخاصة مبرّرة يوماً ما على أساس أخلاقي، من منطلق أن إقامة دولة يهودية كانت تعد رداً مناسباً على قرون من معاداة السامية العنيفة في العالم المسيحي، بما في ذلك الهولوكوست، أو لو صدّقنا أن إسرائيل هي فعلاً الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، لكنها ليست كذلك، لأن الصهيونية منحت اليهود في إسرائيل امتيازاتٍ لم تمنحها لغيرهم، عن إدراك وقصد. ويتساءل والت عمّا إذا كانت إسرائيل تعدّ مكسباً استراتيجياً. ويجيب بنفسه قائلاً "هذا الكلام ربما كان مبرّراً في أثناء الحرب الباردة، حيث كانت مساندة إسرائيل طريقة فعالة للحد من نفوذ الاتحاد السوفييتي في الشرق الأوسط، ولتوفير مصدرٍ مفيد للمعلومات الاستخبارية من حين إلى آخر، لكنه لم يعد كذلك الآن". ثم يضيف "أحداث الأسابيع الماضية أثبتت أن الدعم غير المشروط لإسرائيل يزيد من صعوبة ادّعاء الولايات المتحدة التفوق الأخلاقي على المسرح الدولي. ولم يتردّد والت في توجيه انتقاداتٍ حادّة لموقف إدارة بايدن المنحاز إلى إسرائيل إبّان الحرب أخيراً على قطاع غزّة، في وقت كانت تحاول فيه تحسين سمعة الولايات المتحدة المنهارة". بل ويذهب إلى حد القول إن "الدعم غير المشروط لإسرائيل على مدى عقود أدّى إلى زيادة أخطار الإرهاب على الولايات المتحدة"، وإن المسؤولين الإسرائيليين "ساعدوا في تسويق الحرب الأميركية على العراق"، وإن منظمات اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة "ألقت بثقلها خلف المعسكر المؤيد لهذه الحرب اللعينة". الأخطر أنه يعترف "بأنه يسهل على أنصار إسرائيل، حتى ولو كانوا أقل كفاءة وموهبة، تخطّى كل العقبات للوصول إلى أعلى المناصب الحكومية في الولايات المتحدة، بينما يصعب على غيرهم من الموهوبين الحصول على هذه المناصب، إذا ما تبين أنهم أقل حماساً في تأييدهم إسرائيل". وبعد أن يرصد والت مؤشراتٍ عديدة على "ظهور تصدّعات في العلاقة الخاصة التي تربط بين الولايات المتحدة وإسرائيل"، يطالب، في ختام مقالته، بأن "تصبح العلاقة بين البلدين طبيعية، وبأن تكون الولايات في وضعٍ يمكّنها من انتقاد نظام الأبارتهايد في إسرائيل، حين يكون ذلك ضرورياً".
حين يستخدم أستاذ كبير ورصين، في حجم ستيفن والت، نبرة بمثل هذه الحدّة في نقد إسرائيل، من الطبيعي أن نستنتج أن العلاقة الخاصة التي تربطها بالولايات المتحدة قد بدأت تتصدّع بالفعل، وأن الصدام بين سياسات دولةٍ تطمح إلى زعامة العالم الحر والليبرالي، وسياسات دولة أخرى ينزع نظامها حتما نحو الأبارتهايد والفصل العنصري، قادم لا محالة، وبات مسألة وقت.