هل السودان ضحيّة إرثهِ الكولونيالي؟
لعلّ ظاهرة الانقلابات العسكرية قد استشرت في أنحاء القارة الأفريقية منذ سنوات تحرّر بلدانها من ربقة الأنظمة الكولونيالية الاستعمارية الغربية، التي ظلّت تتحكّم في أقدارها لسنوات، وفي بعضها لعقود وأكثرها لقرون. ما كان خافياً على دارسي العلوم الإنسانية، من اجتماع وسياسة وأنثروبولوجيا اجتماعية وعلم النفس (جلّ هذه العلوم قد تطوّرت خلال القرون المتأخّرة) أنّ تلك التجربة قد وقف وراءها مفكرون قدّموا تبريراتٍ وأسانيدَ رسّختْ مفاهيم التفاوت أمراً طبيعياً بين البشر. وبالتالي، ساعدت في استدامة التجربة الاستعمارية الكولونيالية وشرعنت تلك المفاهيم التي قامت عليها تلك التجربة.
كانت عبارة "عبء الرجل الأبيض" التي جاءت في قصيدة شاعر بريطانيا الاستعمارية الشهير، روديارد كيبلينع، هي الصياغة المُعبّرة عن التجربة الكولونيالية بكلِّ حمولاتها، من استعلاءٍ عنصري وإقرارٍ بالتفاوت بين البشر. لكن لو أجلنا النظر في الذي جرى، ويجري، في القارّة السمراء، من انقلابات عسكرية واضطرابات سياسية، لتبين أنّ من غير الحكمة أن تُحمّل تلك التجربة كلّ الأوزار، وكلّ تلك الإخفاقات التي تعيشها القارّة، ويعيشها السودان، الذي كان من بلدانها الأولى، التي استقلّت جنوبيّ صحرائها. أفصح كاتب سوداني حصيف (الباحث في التاريخ حمد النيل عبد القادر) عن التجربة الكولونيالية في السودان: "ثمّة علاقة بين الاستعمار من جهة، والقومية والدولة والسيادة من جهة أخرى. يصعب بناء دولة حديثة على قومية غير محدّدة المعالم، وبالتالي يأتي مفهوم السيادة والوطنية والإحساس بالوطن منقوصاً، لا يحسّ به الأفراد عندما يسلبه منهم المستعمر". مع الإقـرار بسلبيات التجربة الكولونيالية في السودان، لربما تفسّر تلك العبارة ما حلَّ في السودان من دمار وإهـلاك للإنسان وللحرث وللزرع، بل ولكلّ مقومات الدولة، فهـل يقع وزر ذلك كلّه على المستعمر الكولونيالي القديم وحـده؟
ما وقع في السودان تاريخياً، ووقع أيضاً بدرجاتٍ متفاوتةٍ في بلدان أفريقية عديدة، وربما أيضاً، في بعض بلدان أميركا اللاتينية، وفي قليل من بلدان القارّة الآسـيوية، قد يدفعنـا إلى النظر بموضوعيةٍ لا تدين التجربة الكولونيالية في شمولها رغم مظلومياتها البائنة، ولعلّ عبارة المُفكّر علي مزروعي، في آخر أيامه، "الأفريقي عاجزٌ عن حكم نفسه"، لا تُبرّئ تجربة المستعـمر الكولونيالي، بل تستميلنا لاستصحاب إيجابياتها، لكنّها لا تدفعنا كذلك إلى دمغ قيادات المجموعات السكّانية في مجمل تلك البلدان بالعجز وإدمان فشلها في حكم بلدانها، التي كانت في أسـرِ التجربة الكولونياليـة الاسـتعمارية. ترى هل كان مزروعي صائباً في طرحه ما سمّاها الكولونيالية الحميدة؟... من وجهة نظر كاتب هذه السطور، ثمّة ما يُفسّر جُنوح المُفكّر الأفريقي المُميّز، علي مزروعي، في طرحه ذاك مسترغباً عودة الاستعمار من جديد إلى القارة الأفريقية. في الحقيقة، إنّ التجربة الكولونيالية الاستعمارية اعتمدت مبادئ جاءت من روح شـعار المصريين والسّومريين والإغـريق القدماء؛"فـرّق تَسُـد"، لتفريق الأعداء بغرض السيطرة عليهم. لقد قام أسلوب الحكم الكولونيالي منذ سنوات القرن التاسع عشر على ذلك الشعار الظالم في إدارة مستعمراته، من طريقٍ غير مباشرة، بالاستعانة بالقيادات المحلّية في تلك البلدان، فأضعف بذلك مقوّمات التلاقي والتمازج والتعاون بين مختلف الإثنيات من المجموعات السكّانية. شمل ذلك الأسلوب في إدارة المُستعمِرين عديداً من مُستعمَراتهم في القارّة السمراء، ولم يكن السودان استثناء.
هنالك حـرب شـعواء بين روسيا وأوكرانيـا، وفي السودان وسط القارة السمراء، حربٌ بين السودانيين أنفسهم، وبتحريضٍ من غـرباء مختبئيـن وراء حدود البلاد
بعد انقضاء سـنوات الحرب العـالمية الثانية، ثمّة سـؤالٌ برز إثر ارتفاع صوت المُستعمَرين، يطالبون المُستعمِرين منحَهم حقوق تقرير مصائرهم، فنالت معظم بلدان أفريقيا استقلالها في تلك السنوات الوسيطة من القرن العشرين، فهل جرت تلك التطوّرات بعد مراجعة مُعمّقة وتقييم حقيقي لمجمل التجارب الكولـونيالية الاستعمارية، التي رَسَخَتْ منذ سنوات القرن التاسع عشـر، وما تراجعت إلا تحت ضغوط حقبة ما عرف بالحرب الباردة؟... إذا ألقينا نظرة ثاقبةً، سنرى أنّ الميثاق الذي حوى مبادئ تأسيس هيئة الأمم المتّحدة، وقد كانت بداياته في توافق دول الحلفاء عليه منذ مؤتمر يالطا (1945)، الذي لم تأخذ صياغته سوى نحو شهر، ليكون المُرشد للسلام والأمن الدولييْن ويحمي العالم من الوقوع مرّة ثالثة في حرب عالمية تقع مستقبلاً.
هكذا، وإن انصبَّ التركيز في الميثاق الأممي على ضوابط تجنيب العالم ويلات أيّ حرب قد تقع مستقبلاً، لكنّه لم يتضمّن تدارساً عميقاً بشأن التجربة الكولونيالية ومآلاتها، وإمكانية استدامتها أو إنهائها، فيما بدأت تتضح معالم حقبة الحرب الباردة والتصارع بين قوتين عظميين تسيّدتا المشهد الدولي. غير أنّه وبعد وقت وجيز، بات جلياً أنّ هنالك حاجة للتوصّل إلى توافقٍ جديد يضمن السلام والأمن الدوليين، ولابُدَّ من أن يقوم على مبادي وقـيمٍ أكثر رسوخاً وأعمق تجذّراً. وما كان ذلك ممكناً إلا بالركون إلى أهل الفكر وعقلاء العالم، فـتمّ التوافـق مُجدّداً في عام 1947، على صياغة مواثيق جديدة، تستند أكثر ما تستند إلى القيم الإنسانية جمعاء، باستصحاب الأديان السماوية، من إسـلام ومسـيحـية ويهـوديـة، وعديداً من كريم المعتقدات والمذاهب الفلسفية، والفكر الإنساني الأشمـل. توافـق ممـثلو الأمم المتّحدة على لجنة ترأستها السـيدة إليانور روزفلت، قرينة الرئيس الأميركي الأسبق، وضمّت مشاركين من الشرق والغرب، ومن الأغنياء والفقراء، ومن الشمال والجنوب، جاؤوا ممثلـين بأكثر معايير الضمير البشـري السّويّ اعتماداً. عملت تلك اللجنة نحو عامين كاملين، فخرجت من جهود أعضائها أجمعين، وفي أكتوبر/ تشرين الأول 1948، شرعة حقوق البشـر، المعروفة بـ"الإعلان العالمي لحقوق الإنسان".
بات الميثاق الأممي عرضة للاستخفاف والتجاهل، لعجزه عن احتواء الصراعات والنزاعات والحروب، ثم صار أمراً يثير الشفقة لا السخرية. قدرات البشر في التعقل والـرشد محدودة، وقد يطاولها الباطل من تحتها أو من فوقها، وقد يتطلّب أمر المُستجدّات أن يلحق بالميثاق الأممي تعديل أو إضافات. من تداعيات قصر النظر التاريخي تلك الحروب، التي تدور رحاها في عقود الألفية الثالـثة الماثلة. في تخوم آسيا وأوربا، هنالك حـرب شـعواء بين روسيا وأوكرانيـا، وفي السودان وسط القارة السمراء، حربٌ بين السودانيين أنفسهم، وبتحريضٍ من غـرباء مختبئيـن وراء حدود البلاد، ما جعل تلك الحـرب أشبه بالحرب الأهلية الإقليمية في حزام السودان القديم. أمّا في قطاع غزّة فإنّ بني صهيون يسـومون الفلسطينيين دماراً شاملاً، بل هو "هولوكوست" مضاعف عشر مرات من ذلك الذي أذاقه النازي هتلر لليهود.
طوى الاستعمار صفحاته تاركاً معظم بلدان القارّة الأفريقية ترزح تحت عبء ثقيل لملفّ من قبائل متنافرة وإثنياتٍ وطوائفَ مُوزّعة بين بلدان عديدة
من ويلات الكولونيالية في اتّباعها أساليب حكمٍ بإدارة محلّية غير مباشـرة أنْ طوت صفحات استعمارها خلال سنوات الحرب الباردة، تاركة معظم بلدان القارّة الأفريقية ترزح تحت عبء ثقيل لملف من قبائل متنافرة، وإثنيات وطوائف موزّعة بين بلدان أفريقية عديدة، رُسِمَتْ حدودها بمطامع وتوافقات سـياسية جزافية بين قوى استعمارية غريبة على القارة. السودان ليس استثناء. لك أن تنظر لترى سودان القرن العشرين بعد استقلاله وقد واجه إرثاً كولونيالياً مأزوماً لن يكتب للسودانيين، مهما أوتوا من مقدّرات، تجاوز تداعياته السالبة. غادر المُستعمِرُ وقد خلّف وراءه للسودان مشكلةً حدوديةً مع مصر، في مثلث حلايب وشلاتين، وأزمة حدودية ثانية في منطقة الفشقة مع إثيوبيا، وأزمة ثالثة مع ليبيا وتشاد، حول مثلث المسارا الحدودي، ورابعة حول مثلث أليمي عند الحدود مع كينيا، وترك مثلثا آخر خامدا مع الكونغو، تتقاسمه قبيلة الزاندي، حيث ثلثان هنا وثلث هناك. بعد استقلال جنوب السودان ارتحلت الأزمتان الحدوديتان الأخيرتان من السودان إلى دولة جنوب السودان. من أقدار السودان، أن تشتعل حروبه الداخلية لأسباب تتصّل بهذا الإرث الثقيل من المشكلات الحدودية، في شرقه وغربه وجنوبه. أمّا شماله فبقي سليماً بحكم التواصل الأعمق بين مصر، وإن ظلّ الخلاف قائماً حول حلايب وشلاتين ولم يُحسم بعد، إذ نرى شكوى الســودان في أضابير الأمم المتحدة، تجدّد كلّ دورة منذ عام 1958.
الدعوة الناصحة للسودانيين هي في إعمالهم النظر مليّاً في تاريخ بلادهم، وفي تاريخ وجغرافيا القارّة السمراء ككلّ، حتّى يُتاح لهم إدراك أبعاد الإرث الثقيل الذي خلّفه الاستعمار الكولونيالي فيها، والالتفـات إلى نعمة التنوّع، إن كتب لهم التشارك الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لاستثمارها. وليس من المفيد إلقاء اللوم بكامله على تلك التجارب الاستعمارية المريرة أو تحميل أوزار الفشل والحروب الماثلة لأطراف أخرى، ولكن لهم أن يستكشفوا أبعاد ذلك التنوّع الذي حظي به السودان، ليروا نعمة الأخوّة الإنسانية فيما بينهم، ويلتفتوا بصادق النيات لطيّ جراحات الماضي المُثقل بالصراعات والخلافات والمنافسات، وأن تتلاقى العقـول قبل الأيدي، لتخططّ وتبني إطارا لأمّة، في بلـدٍ هو أوّل من نال استقلاله جنوب حزام الصحراء الأفريقية، وهو من المؤسّسين لمنظمة الوحدة الأفريقية، ومن صاغوا مواثيقها، وقد صارت الآن منظـّمة الإتحاد الأفريقي. للسودان دور لن يتولّاه غيره من بلدان القارة، فهو الصدر ولا ينبغي أن يتذيّل دول القارة السّمراء، وهو الثري بموارده ولا ينبغي أن يكون أفقـرها، وهو الناجح بعبقرية موقعه لا أن يكون أكثرها إدماناً للانقلابات وللفشل السياسي.