هل انتهى الاستثناءُ التونسي؟
شكّلت التجربة الديمقراطية في تونس نقطة الضوء الوحيدة في ما آلت إليه ثورات الربيع العربي من خراب وفوضى. ولم تكن خسائر ثورة الياسمين كبيرة، إذا ما قورنت بالفاتورة الثقيلة التي دفعتها شعوب سورية واليمن وليبيا. ويحسب ذلك للتونسيين الذين نجحوا، على اختلاف مكوّناتهم، في النأي ببلادهم عن الانجرار إلى العنف والاحتراب الأهلي. وقد استماتت هذه التجربة، على مدار عقد، في مواجهة محاولات إجهاضها من الداخل والخارج، ونجحت في مغالبة مطبّات التحوّل الديمقراطي ومصاعبه، إلى أن قرّر الرئيس قيس سعيّد، في 25 يوليو/ تموز المنصرم، اتخاذ تدابير استثنائية، أبرزها تعليق أشغال البرلمان وتعطيل مواد كاملة في الدستور وتوسيع صلاحياته الرئاسية، في خطوةٍ صريحةٍ للالتفاف على هذه التجربة ووأدها على المدى البعيد.
وعلى الرغم من أن النزعةَ السلطويةَ المتناميةَ، التي ما فتئ يُبديها سعيّد منذ انتخابه قبل سنتين، كان لها دور رئيس في ما اتخذه من تدابير، إلا أنه يصعب إغفال ما كان للانحباس السياسي والمؤسسي، والأزمةِ الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، وتقلصِ مساحة التوافق بين مكونات الطبقة السياسية، وجهودِ قوى الثورة المضادّة في هذا الصدد من دور، أيضاً، في ضرب مقوّمات الديمقراطية التونسية، وإيصالها إلى الباب المسدود. ومن هنا، كان انقلاب سعيّد تتويجاً لذلك كله واستثماراً في عائداته، من خلال خطابٍ شعبويٍّ متخشبٍ يتوازى مع نزوع مرضي للاستئثار بالسلطة وتسفيه المؤسسات الأخرى والتضييق على الحقوق والحريات، في ما يبدو إحياءً مُمنهجاً لنظام زين العابدين بن علي. ولا شك في أن أخطر ما في الأزمة التونسية الحالية تصاعد حدّة الانقسام المجتمعي بشأن التدابير التي اتخذها، بما يمثله ذلك من تهديدٍ للسلم الأهلي والوحدة الوطنية.
في ضوء ذلك، يبقى السؤال الأكثر مركزية: هل انتهى الاستثناء التونسي؟ يصعب الجزم بذلك، بالنظر للتراكم الديمقراطي النسبي في تونس، وافتقاد الرئيس خريطة طريق واضحة بشأن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تواجهها البلاد، فضلاً عن ضغوط بعض القوى الدولية، وفي مقدمتها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. بيد أن ذلك لا يمنع من القول إن انقلاب قيس سعيّد يمثّل ''فرصةً لا تعوّض'' بالنسبة إلى قوى الثورة المضادّة في المنطقة. ولعل ما تردّد في الأيام القليلة الماضية بشأن مفاوضاتٍ تجريها تونس مع السعودية والإمارات، من أجل الحصول على مساعداتٍ ماليةٍ عاجلةٍ لإنقاذ ماليتها من الإفلاس، يؤكد عزم هذه القوى على قطع الطريق أمام القوى السياسية التي تتطلّع إلى استعادة الشرعية الدستورية وإعادة قطار الديمقراطية في تونس إلى سكّته.
كانت قوى الثورة المضادّة تدرك، منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، أهمية التجربة التونسية بالنسبة إلى انتقال عدوى الديمقراطية وتمدُّدها في المنطقة. ولذلك ظلّت تنظر إليها باعتبارها أسّ الداء الذي ينبغي استئصاله، مهما كلف ذلك من ثمن، فترسُّخُها أكثر يحوّلها إلى نموذجٍ تستلهمه القوى المتطلّعة إلى التغيير الديمقراطي السلمي. وفي المقابل، يشرعن إجهاضُها سردية المخاطر التي تحملها مشاريع التحوّل الديمقراطي لشعوب المنطقة.
تكتسي هذه التجربة أهمية كبرى بالنسبة إلى معادلة الإصلاح السياسي في المنطقة، ذلك أن وأد المسار الديمقراطي في تونس لن يغلق فقط قوس الربيع العربي، بل سيُشيع أجواءً من الإحباط وخيبة الأمل وسيفاقم شعوراً عاماً في المنطقة بعدم جاهزية شعوبها (أو أهليّتها؟) لاستيعاب قيم الاختلاف وقبول الآخر. وبالتالي، إمكانية الالتحاق بركب الدول الديمقراطية. وهو ما يشكّل، في حد ذاته، مورداً اجتماعياً وسياسياً بالنسبة إلى الاستبداد الجديد الذي سيعيد حساباته، في أفق ترسيخ هيمنته على مختلف مصادر السلطة وتجفيف منابع المعارضة وإضعاف المؤسسات الوسيطة، مستغلاً تخلّف البنيات الثقافية والاجتماعية السائدة، وشيوع مظاهر التعصّب الإيديولوجي والفكري داخل المجتمعات العربية، وفشل النخب في بناء التوافقات المجتمعية الكبرى.