هل تبيع مصر قناة السويس؟
في ظل الأزمة الطاحنة التي تمر بها مصر نتيجة نهج الاستدانة الذي درج عليه الرئيس عبد الفتاح السيسي، تخطّط السلطة لنقل ملكية مصر في أصولها واقتصادها إلى الصناديق السيادية الخليجية، إيفاءً لعهودها، وربما نوعاً من المقايضة على الديون التي أصبحت حملاً ثقيلاً تهدّد السيادة والأمن القومي للبلاد. فقد نشرت وكالة بلومبيرغ الأميركية تقريراً أوضح اعتزام القاهرة بيع بعضٍ من حصصها في الشركات المصرية التي تقدّر بملياري دولار إلى صندوق أبوظبي السيادي، وفي مقدمها البنك التجاري الدولي.
درج السيسي ومجموعته في السلطة على عقد الاتفاقات ثم استصدار القوانين لها، وهو ما يحدث حالياً، فقد أنشأت هيئة قناة السويس صندوقاً خاصاً بها قبل أكثر من عامين بتوجيهات مباشرة من الرئيس، أي قبل مناقشة مجلس النواب مشروع القانون المقدّم من الحكومة بتعديل بعض أحكام قانون نظام الهيئة رقم 30 لسنة 1975، وموافقته على مجموع موادّه في جلسته العامة هذا الأسبوع. كان السيسي بالفعل قد احتجز أموالا من موارد قناة السويس بعيداً عن الميزانية العامة للدولة داخل هذا الصندوق، وبلغت حصيلة الأموال الموجّهة إليه من موارد الهيئة نحو 80 مليار جنيه (3.2 مليارات دولار). وهذا أحد أهداف صندوق قناة السويس، فهو يهدف إلى احتجاز الجزء الأكبر من موارد هيئة قناة السويس بعيداً عن الموازنة العامة للدولة، وتوجيهها مباشرة إلى ما تعرف بـ"خطط التنمية الرئاسية"، أي أنها ستكون تحت الإشراف المباشر لرئيس الجمهورية يتصرّف بها كيفما يشاء، بدلا من توجيه هذه الأموال إلى وزارة المالية، وإدراجها، بطبيعة الحال، ضمن الإيرادات العامة للدولة. والخطورة الحقيقية في مشروع هذا القانون، عند فحص بنوده، أن هناك عديدا من التلاعب في ألفاظه، ما يفتح المجال للتأويلات والتلاعب بأصول هيئة قناة السويس، فمثلا نجد أن المشروع يفرّق بين مرفق وهيئة قناة السويس. ويبدو أن الهدف من تلك التفرقة تسهيل نقل تبعية الأراضي والأصول التابعة للمرفق إلى الصندوق السيادي الذي يشرف عليه السيسي ولا يطّلع عليه أحد، ويتم نقل تلك الأصول وبيعها إلى أي دولة.
كل الأصول المصرية سوف تنتقل تباعاً إلى ملكية الصندوق السيادي وإدارته، والذي بدأ في طرح بعضها للبيع إما لسداد الديون أو لمقايضتها بالأصول
وفقاً للمادة السادسة من قانون الصندوق، "لرئيس الجمهورية حق نقل ملكية أي من أصول الدولة غير المستغلة إلى الصندوق أو أي من الصناديق التي يؤسّسها، والمملوكة للصندوق بالكامل بناء على العرض من رئيس الوزراء والوزير المختص، وكذلك الأصول المستغلة فتكون كالأصول غير المستغلة بإضافة الاتفاق مع وزير المالية والتنسيق مع الوزير المعني". ما يعني أنّ كل الأصول المصرية سوف تنتقل تباعاً إلى ملكية الصندوق السيادي وإدارته، والذي بدأ في طرح بعضها للبيع إما لسداد الديون أو لمقايضتها بالأصول. وبالفعل، نقل الرئيس السيسي إلى الصندوق السيادي "مجمّع التحرير"، ونقل إليه أيضاً أرض الحزب الوطني الديمقراطي (سابقاً) المطلّة على النيل، في واحدة من أجمل البقاع في القاهرة الساحرة، والقرية الكونية التي تضم نماذج مصغرة لأشهر معالم مصر الحضارية مروراً بحقب تاريخية مختلفة، وأرض وزارة الداخلية (سابقاً) في القاهرة، وهذا ما قد يتكرّر مع صندوق هيئة قناة السويس. وترجّح كفة هذه المسألة مواد القانون الملتبسة في الصندوق الخاص بقناة السويس، فطبقا للمادة 15 مكرّر، والتي تتحدّث عن النظام الأساسي للصندوق، فالبند ينصّ على أن رئيس الجمهورية هو المعني به إصدار النظام الأساسي، والذي سيحكُم سياسة الصندوق في التعاطي والتعامل مع الأصول الخاصة بهيئة قناة السويس، كما أنه سينظّم العاملين بالصندوق والهيكل الإداري له، وهذا يعني أن السيسي هو الشخص المسيطر على الصندوق والذي سيُصدر نظامه الداخلي، من دون أن يتاح لأي حد معرفة أي شيء عن ذلك الصندوق.
كما أن النظام الأساسي يعدّ بمثابة اللوائح الداخلية، ويمكن الزيادة فيها وتعديلها بما يخالف النصوص المقرّرة في نص المشروع الذي أرسلته الحكومة للبرلمان. سيطرة السيسي مباشرة على الصندوق تعني أن أنه كافة حسابات الصندوق ستكون بعيدة عن الرقابة المالية، ولن تخضع لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات، وهذا ما أشارت إليه المادة 15 مكرّر "ه"، والتي تنص على أن الحساب الختامي فقط هو الذي يخضع للصندوق، ما يعني أن كل حسابات الصندوق والحسابات الختامية لن تكون خاضعة لرقابة الجهاز المركزي للحسابات، ما يفتح الباب للتلاعب بالأرقام والحسابات الأخرى المختلفة طبقا لنص المادة. في الوقت ذاته، لن يكون الصندوق خاضعا لقوانين الجهاز الإداري للدولة، وهو ما يعني أن الصندوق ستكون له لوائحه الداخلية الخاصة، والتي ستسمح له بتعيين غير المصريين في الهيكل الإداري التابع لقناة السويس، ما يؤكّد احتمالية البيع وفرض وصاية أجنبية على القناة. وصل الحال في مصر الآن إلى الخضوع التام لأوامر صندوق النقد الدولي، وأصبحنا أمام الأصول مقابل الديون، وأقرب إلى البرنامج المعروف للعراق في تسعينيات القرن الماضي، النفط مقابل الغذاء.
أكثر ما يقلق الناس في مصر أن تكون عملية التصرّف في أصول قناة السويس أشبه بالطريقة التي جرى التصرف فيها في جزيرتي تيران وصنافير
تمثل الأصول التي يجري التصرف فيها وبيعها أساسا وركيزة للعملية الإنتاجية، وليست فوائض لدى الدولة المصرية، ما يعني حرمان مصر مستقبلاً من الاستفادة من أصولها لإنشاء قاعدة صناعية تساهم في رفع مستوى الإنتاج لرفع مستوى التصدير، وبالتالي الحصول على العملة الصحية، وكأن الأمر أشبه بعملية الإبقاء على مصر خاضعة لهذه الديون وغير قادرة على النهوض مرة أخرى.
أكثر ما يقلق الناس في مصر أن تكون عملية التصرّف في أصول قناة السويس أشبه بالطريقة التي جرى التصرف فيها في جزيرتي تيران وصنافير، أو التوقيع على اتفاقية إعلان المبادئ بشأن إنشاء سد النهضة الإثيوبي، وهو ما عرّض الأمن الاستراتيجي المصري واستقلال قرارها الوطني وجعله مرهونا في يد دول أخرى. الهدف المعلن للصندوق هو استثمار أصول الهيئة، وتنمية فوائضها المالية، مؤكّداً أن "التعديل يفتح في واقع الأمر باباً خلفياً للفساد، ويزيد من معاناة الاقتصاد المصري الجريح، ويعمّق اختلالاته الهيكلية التي بدأت مع تجربة إنشاء الصناديق الخاصة المريرة". من الواضح أن مصر مقبلةٌ على مرحلة جديدة في الأيام المقبلة وتغيرات سياسية واسعة، أو بمعني أوضح ستشهد نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، وكل ما يطمح المرء إليه أن تتم تلك التغيرات في سلام، من دون حدوث فوضى قد تعرّض مصر وأمنها إلى ما لا يحمد عقباه.