هل تتدحرج إسرائيل إلى حربٍ أهلية؟
ليست هذه المرّة الأولى التي تمر فيها إسرائيل بهذا الظرف الصعب؛ فقد واجهت من قبل أربع مناسبات كادت الأمور فيها تنجر نحو حربٍ أهلية، وكان الخطر محدِقاً بها. لكن المواجهة تختلف هذه المرّة في أنّها تحدُث، وقد انتهى جيل المؤسسين؛ الذي قامت دولة الاحتلال على أكتافه، وكان حريصاً بدرجة كبيرة على مصلحة الدولة التي أسّسها. ومن هنا، كانت الأمور تمرّ بسلام، وتنتهي بأقلّ الخسائر الممكنة.
حادثة ألتالينا هي الأولى التي كادت أن تقود الإسرائيليين في عام تأسيس دولة الاحتلال (1948) إلى حرب أهلية؛ وألتالينا اسم سفينة إيطالية اشترتها منظمة "إتسل = إرجون تسفائي لأومي"، وهذه إحدى المنظمات العسكرية اليهودية الإرهابية التي تأسّست في فلسطين من أجل المشروع الصهيوني، وكان يقودها في ذلك الوقت مناحيم بيغن الذي سيصبح رئيساً للحكومة الإسرائيلية. كانت السفينة محمّلة بالأسلحة التابعة للمنظمة المذكورة، وكانت الحكومة الإسرائيلية حينها بقيادة ديفيد بن غوريون تريد إخضاع كل المنظمات العسكرية تحت قيادة الجيش الذي تديره الحكومة. كانت "إتسل" قد وافقت على تفكيك سلاحها والاندماج في الجيش الإسرائيلي، لكنّ وصول السفينة المحمّلة بالأسلحة جعل الحكومة حينها ترى في ذلك تهديداً لسيادة الدولة، ومن ثم قرّرت الدولة استخدام القوة لردع منظمة إتسل، ومنعها من الاستحواذ على الأسلحة. ومع تطوّر الأحداث وقع اشتباك بين قوات الجيش وقوات إتسل، قتل فيه 16 من المنظمة، وثلاثة من الجيش، إضافة إلى إصابة العشرات، وجرى تفجير السفينة وإغراقها على يد الجيش، واعتقل حوالي مائتي عضو من أعضاء "إتسل" ضمن عملية أطلقت عليها الحكومة اسم عملية "التطهير"، ولاحقاً جرى حلّ التنظيم، واندمج أعضاؤه في الجيش الإسرائيلي، ولم تتطوّر الأمور إلى حرب أهلية.
عرفت المناسبة الثانية باسم انقلاب 77، حينما انتخب اليمين الإسرائيلي لأول مرة، في عام 1977، لقيادة الحكومة بزعامة مناحيم بيغن؛ فقد جاءت هذه الانتخابات لتنهي حكم حزب المباي (العمل) اليساري بشكل لم يكن يتوقّعه أحد، وقد كان وقع الهزيمة كبيراً ومفاجئاً حتى إنّ قادة اليسار الراديكالي كانوا يفكّرون في عدم نقل السلطة إلى اليمين، بحجة أنّ ناس اليمين لا يعرفون ما معنى الدولة، ولا كيفية إدارتها، وأنّ بيغن ذا الخلفية الإرهابية سوف يقود إسرائيل إلى المجهول. وفي النهاية، نُقلت السلطة، وتجنّبت إسرائيل للمرة الثانية الوقوع في حربٍ أهلية.
يتخوّف كثيرون من كتّاب إسرائيليين وسياسيين من أنّ إسرائيل تواجه شبح الحرب الأهلية بين قوى اليمين الحاكم وقوى الوسط واليسار
كان اغتيال رئيس الحكومة إسحق رابين في عام 1995 مناسبة ثالثة كادت أنّ تؤدّي إلى حرب أهلية أيضاً، حين قتل متطرّف يميني رافض اتفاق أوسلو رابين، وفي الانتخابات التالية مباشرة خسر اليسار، وفاز نتنياهو في الانتخابات، ومرّت الأمور من دون اندلاع شرارة حربٍ كانت متوقّعة بين رافضي الاتفاق ومؤيديه.
وفي عام 2005 كانت المناسبة الرابعة؛ وتمثلت فيما عرف حينها بفكّ الارتباط مع قطاع غزّة، وإخلاء مستوطنة جوش قطيف من ثمانية آلاف من المستوطنين باستخدام القوة، حينها شعر اليمين أن رئيس الحكومة في ذلك الوقت، شارون، قد غدر بهم وخدعهم. وعلى إثر ذلك، اندلعت المواجهات ضد الحكومة، وللمرّة الرابعة جرى كبح جماح الحرب الأهلية.
ما يلاحظ في المناسبات السابقة جميعها أن الثلاثة الأولى منها كانت بين قوى اليمين واليسار، أو ممثلين عن الفريقين، وهو ما يتكرّر في الأحداث الحالية، وبشكل أكثر خطورة عن أي مرّة سابقة. ويتخوّف كثيرون من كتّاب إسرائيليين وسياسيين من أنّ إسرائيل تواجه شبح الحرب الأهلية بين قوى اليمين الحاكم وقوى الوسط واليسار، لكنّ المحللين الإسرائيليين يعتبرون هذه المرّة هي الأخطر، لأن جيل المؤسسين قد انتهى، والجيل الحالي أناني، يقدّم مصالحه على مصالح الدولة، والمعسكران منقسمان بين فريقين، أحدهما راغب في صنع ديكتاتورية، والآخر رافض أي حلول وسط، رغم علمه بعيوب النظام القضائي.
ما يزيد الأمر خطورة هو العنف الذي أصبح مواكباً لهذه الاحتجاجات، ويتزايد مع مرور الوقت. وتختلف الرواية بشأن هذا العنف المتصاعد اختلافاً يعكس حجم المشكلة بين اليمين واليسار؛ فاليمين الحاكم يرى أنّ قوى اليسار توظّف التظاهرات لإحداث حالة من الفوضى، وتستفزّ مؤيدي المعارضة وتعتدي على الوزراء، والمتدينين والمعابد، وتحاول التحكّم في القرار السياسي، عبر تعطيل مؤسسات الدولة، وإغلاق الطرقات، وبالتالي، من حقّ أجهزة الشرطة أن تواجه مثل هذه الأعمال التخريبية من دون المسّ بالحق في التظاهر حسب زعمها.
إصرار نتنياهو على المضي في خطته لإصلاح النظام القضائي يمكن تبريره بأنه يدرك أن تراجعه سوف يؤدّي بشكل حتمي إلى تفكّك الائتلاف الحاكم وسقوط الحكومة
أما قوى اليسار فإنها، على العكس من ذلك، ترى أنّ اليمين الحاكم يستخدم كلّ الوسائل الممكنة لتحويل التظاهرات إلى أحداث عنفٍ خطيرة بالادعاءات الكاذبة، واستخدام العنف الشرطي ضد المتظاهرين، وصولاً إلى استخدام المجرمين للاحتكاك بالمتظاهرين، وذلك حتى تصوّر المظاهرات مصدر خطر. وبالتالي، تقل المشاركة حرصاً على الأمن الشخصي للمتظاهرين وعائلاتهم، وتكون هناك حجّة للشرطة لقمع التظاهرات، حتى تمنع "الشجار" بين المواطنين، من أجل إقرار النظام، وهي في ذلك تستخدم أسلوب النظام الإيراني الذي قضى على المظاهرات بالطريقة نفسها، عبر توظيفه قوات الباسيج، ويدير إعلام الحكومة الإسرائيلية حملة تحريضية منظمة ضد الاحتجاجات، ومن ثم تندلع الصدامات التي تخدم السلطة.
غير أن ذلك لا يمنع منظّمي الاحتجاجات من التصعيد المتدرّج، خصوصاً في ظل ما أعلنه نتنياهو الأسبوع الماضي من أنه لن يتراجع عن إصلاح المنظومة القضائية، ولن يؤجّل هذا الإصلاح. والحقيقة أن إصرار نتنياهو على المضي في خطته لإصلاح النظام القضائي يمكن تبريره بأنه يدرك أن تراجعه سوف يؤدّي بشكل حتمي إلى تفكّك الائتلاف الحاكم وسقوط الحكومة، غير أن موقفه هذا بمثابة صبّ للزيت على النار المشتعلة أساساً، والتي سوف يزداد وقودها في الفترة المقبلة.
يؤكد على ذلك أن قادة الاحتجاجات المندلعة قرّروا أن يكون الأسبوع الحالي أسبوع شلل عام في الأنحاء كافة؛ بحيث تعمّ المظاهرات كل مكان يومي الأحد والاثنين، ويبدأ التصعيد يوم الثلاثاء الذي سيكون يوم شلل واسع في كل الأرجاء، ثم التحرك إلى القدس في تظاهرة ضخمة يوم الأربعاء أمام الكنيست، أما يوم الخميس فسوف يشهد احتجاجات ومفاجآت رفض المنظمون الكشف عنها.
الأزمة التي تمر بها إسرائيل حالياً غير مسبوقة، خطورتها أنها تتخطّى تدريجياً مجرّد أنها صراع ديمقراطي، لتمتدّ إلى تفكيك بنية الدولة
يبدو المشهد الإسرائيلي وكأنه تناطح بين ثورين هائجين لا ينوي أحدُهما التوقف، ويزداد تمسّك كل فريق بموقفه المتعنت، وترتفع مطالبات المعارضة إلى الظن بأن ما تقوم به من مظاهرات غير مسبوقة منذ قيام إسرائيل سوف يحدث تغييراً كبيراً يمكّنها من تحقيق أهدافها المعلنة بإيقاف خطة التشريعات، أو أهدافها غير المعلنة بإحداث تفكّك في صفوف الائتلاف الحاكم وسقوط الحكومة. ويروّج مفكرو اليسار الإسرائيلي في هذا السياق دراسة أعدّتها إريكا تشينويث، أستاذة العلوم السياسية في جامعة هارفارد، ذكرت فيها أن الاحتجاجات السلمية عادة ما تحقّق نجاحاً أكبر بنسبة الضعف من الاحتجاجات التي يصحبها العنف؛ حيث تؤدّي الاحتجاجات السلمية إلى التغيير السياسي بنسبة 53%، بينما تنجح الاحتجاجات العنيفة بنسبة 26% فقط في إحداث هذا التغيير، وأن مشاركة 3.5% من مجموع سكان أي دولة في الاحتجاجات كفيل بأن يؤدّي إلى تغييرات سياسية خطيرة.
في مقابل هذه المظاهرات الرافضة الإصلاحات القضائية، هناك حملة قوية مؤيدة لها تتضمّن تعليق لافتات، وجمع توقيعات إلكترونية، ونشر مساوئ النظام الحالي، وتغوّل السلطة القضائية، ونشر آراء أساتذة في القانون، وقضاة، وحقوقيين، وسياسيين سابقين في إسرائيل وخارجها، تظهر عيوب القوانين الحالية التي تسمح للسلطة القضائية بهذا التغوّل، ذلك كله إضافة إلى إعلان تأييد كل من وزير العدل ياريف ليفين، ورئيس لجنة الدستور في الكنيست سمحا روتمان، اللذين يقودان التعديلات القانونية الخاصة بإصلاح القضاء.
الأزمة التي تمر بها إسرائيل حالياً غير مسبوقة، خطورتها أنها تتخطّى تدريجياً مجرّد أنها صراع ديمقراطي، لتمتدّ إلى تفكيك بنية الدولة، عبر دعواتٍ إلى التمرّد، ورفض التجنيد، وعدم طاعة الأوامر الصادرة عن المسؤولين في السلطة، وحدوث انقسام مجتمعي هائل. وقد لا تتدحرج الأمور في إسرائيل إلى حرب أهلية مثلما ينتظر بعضهم، لكن حالة الانقسام الواقعة ستتعمّق أكثر بين مؤيدي الوسط واليسار من ناحية، ومؤيدي اليمين، وفي طليعتهم المتدينون من ناحية أخرى الذين باتوا يشعرون، وبشكل يومي متزايد، بأنهم هم المستهدفون تحديداً من تحرّكات اليسار والوسط العلماني، وأن مشاركتهم في الحكم بهذا الشكل الواسع وغير المسبوق تفرض عليهم مواجهة هذه الحالة العدائية. ذلك كله يجعل فتيل الحرب الأهلية في إسرائيل جاهزاً، وهو وإن لم يشتعل اليوم سوف يظل منتظراً من يُشعله.