هل تحول "الناتو" عقبةً في طريق السلام؟
تسبّبت أوروبا الغربية في اندلاع حربين عالميتين في النصف الأول من القرن العشرين ـ راح ضحيتهما أكثر من مائة مليون نسمة، بخلاف الجرحى والأسرى والمفقودين، فالحرب الأولى، والتي تواصلت أربع سنوات متتالية (1914-1918)، أدت إلى مقتل ما يقرب من 25 مليون شخص، عشرة ملايين منهم عسكريون. أما الثانية، واستمرت ست سنوات (1939-1945)، فقد راح ضحيتها ما يقرب من 80 مليون شخص، بينهم 50 مليون مدني، وجرى خلالها استخدام السلاح النووي، حين ألقت الولايات المتحدة، من دون أي ضرورة عسكرية، قنبلتين نوويتين على مدينتين يابانيتين، هيروشيما يوم 6 أغسطس/ آب وناغازاكي يوم 9 أغسطس/ آب عام 1945، راح ضحيتهما معا حوالي ثلاثمائة وخمسين ألف شخص.
أمام حجم الخراب الناجم عن الكارثتين، اقتنع قادة العالم بأن إنقاذ البشرية من ويلات الحروب بات مرهونا بقدرة النظام العالمي على إحداث نقلةٍ نوعيةٍ في مسار العلاقات الدولية، تنهي حالة السيولة المستندة إلى سباق التسلح وتوازن القوى، وتبنّي مفهوم جديد يتعامل مع أمن المجتمع الدولي باعتباره كلا لا يتجزأ تقع عليه مسؤولية ردع أي اعتداء يقع على أي جزء فيه، وهو مفهوم "الأمن الجماعي". واستنادا إلى هذه القناعة، تم تأسيس "عصبة الأمم"، في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وحين فشلت العصبة في الحيلولة دون اندلاع حرب عالمية ثانية، لم يتزعزع الإيمان في مفهوم "الأمن الجماعي"، وإنما بدا العالم أكثر تصميما على إقامة منظمة دولية بديلة، أكثر فاعلية وقدرة على تحقيقه، وهي الأمم المتحدة التي تأسست عام 1945، وما تزال قائمة. ويحتوي الميثاق المنشئ لهذه المنظمة التي تحولت عبر مسيرتها الطويلة إلى مؤسسة عالمية، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، على نظام متكامل للأمن الجماعي، يقوم على: أ - مجموعة مبادئ وقواعد عامة على الدول الأعضاء الالتزام بها. ب - جهاز مسؤول عن تحقيق السلم والأمن الدوليين، هو مجلس الأمن، يتمتع بسلطات وصلاحيات واسعة جدا، تمكّنه ليس فقط من فرض عقوبات قاسية ضد كل من يتسبّب في الإخلال بالسلم والأمن الدوليين، وإنما أيضا من استخدام القوة المسلحة ضده. ج - لجنة تضم رؤساء أركان حرب الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، تسمّى "لجنة أركان الحرب"، تعمل كجهاز استشاري لمساعدة المجلس على الإدارة الميدانية للعمليات العسكرية التي تفرضها الحاجة. د – وحدات عسكرية تلتزم الدول الأعضاء بتجهيزها داخل جيوشها الوطنية، توضع تحت تصرّف مجلس الأمن للاستخدام عند الضرورة (المادتان 43 و45 من الميثاق) .. إلخ، غير أن تشغيل هذا النظام توقف على شرط اساسي، تحقق الإجماع بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وهو ما لم يحدُث، بسبب انقسام التحالف المنتصر في الحرب العالمية الثانية، والذي قامت الأمم المتحدة على أكتافه، إلى معسكرين متصارعين، اندلعت بينهما حرب باردة استمرت ما يزيد على أربعة عقود.
لن يتمتع أي حديث عن إصلاح الأمم المتحدة بأي مصداقية إلا إذا اقترن باستعداد الدول الغربية عموما، والولايات المتحدة بصفة خاصة، لحل حلف الناتو
وكان تأسيس الولايات المتحدة حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1949 بمثابة إعلان رسمي بفقدان هذه الدولة العظمى الثقة في نظام الأمن الجماعي الذي تديره الأمم المتحدة، ولحاجة المعسكر الغربي الذي تقوده إلى نظام أمني خاص به، ما دفع المعسكر الشرقي المنافس إلى سلوك النهج نفسه، والشروع في تأسيس حلف وارسو عام 1955. وهكذا ظهر إلى جانب نظام الأمن الجماعي "العالمي" نظامان فرعيان موازيان، يختصّ كل منهما بمنطقة نفوذ خاصة به، يسعى أحدهما إلى مد نطاق حمايته إلى الدول المنخرطة في المعسكر الغربي، ويجسّده حلف الناتو، ويسعى الآخر إلى مد نطاق حمايته إلى الدول المنخرطة في المعسكر الشرقي، ويجسّده حلف وارسو.
يختلف "نظام مناطق النفوذ" اختلافا بيّنا عن "نظام الأمن الجماعي"، وربما يشكّل نظاما بديلا أو نقيضا له، فالأخير، كما سبقت الإشارة، يتعامل مع المجتمع الدولي ككل، باعتباره نسقا أمنيا واحدا غير قابل للتجزئة، ومن ثم تقع على كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، متضامنة، مسؤولية رد أو ردع أي اعتداء يقع على أي جزءٍ فيه. أما نظام مناطق النفوذ فيتعامل مع المجتمع الدولي باعتباره أنساقا أو كتلا متباينة، يحق لكل منها تنظيم شؤونها الأمنية وفقا لما تتطلبه مصالحها الخاصة المشتركة، ما يعني سلخ كل كتلة على حدة، ووضعها تحت الهيمنة المنفردة للدولة العظمى التي تقودها، أي سلخ دول الكتلة الغربية ووضعها تحت الحماية المنفردة للولايات المتحدة، وسلخ دول الكتلة الشرقية ووضعها تحت الحماية المنفردة للاتحاد السوفييتي، الأمر الذي يترتب عليه بالضرورة شل قدرة الأمم المتحدة على التعامل مع الأزمات التي تندلع في منطقة النفوذ التابعة لأي من هاتين الكتلتين، وكذلك في الأزمات التي تكون فيها إحدى القوتين العظميين طرفا مباشرا فيها، وهذا هو ما حدث، فقد أصاب الشلل شبه التام نظام الأمن الجماعي، ولم يكن في مقدور الأمم المتحدة أن تتدخل في الأزمات التي اندلعت في المجر (1956) وفي تشيكوسلوفاكيا (1968) وفي الأزمات التي تواصلت سنوات طويلة، وتسببت فيها الحرب الأميركية على فييتنام أو الحرب السوفييتيه على أفغانستان .. إلخ.
حين انتهت الحرب الباردة، بانهيار حائط برلين أولا عام 1989، ثم بانهيار الاتحاد السوفييتي نفسه عام 1991، اختفى حلف وارسو وجرى حله بالفعل
حين انتهت الحرب الباردة، بانهيار حائط برلين أولا عام 1989، ثم بانهيار الاتحاد السوفييتي نفسه عام 1991، اختفى حلف وارسو وجرى حله بالفعل. وقتها، تصوّر كثيرون أنه لم يعد لحلف شمال الأطلسي ما يبرّره، وأنه سيحل نفسه آجلا أو عاجلا، ثم راحوا يطالبون بنظام عالمي جديد تلعب فيه الأمم المتحدة الدور الرئيسي من خلال تفعيل نظام الأمن الجماعي الذي تسبّبت الحرب الباردة في تجميده، الأمر الذي استدعى إدخال إصلاحات جوهرية على الهيكل التنظيمي للأمم المتحدة، خصوصا ما يتعلق منها بتوسيع نطاق العضوية في مجلس الأمن وبطريقة اتخاذ القرار فيه، غير أن تحقيق هدف طموح كهذا تطلب تخلي الجميع عن أحلام الهيمنة المنفردة، والتفكير في مصالح البشرية ككل، وهو ما لم يكن متاحا للأسف، فقد تصوّرت الولايات المتحدة أن سقوط المعسكر الاشتراكي المعادي لها يعني انفساح الطريق أمامها للهيمنة المنفردة على العالم، ومن ثم شرعت على الفور في اتخاذ كل الإجراءات التي تمكّنها من إحكام قيادتها المعسكر الغربي وبسط سيطرتها على النظام الرأسمالي. وبدلا من حل حلف الناتو، راحت تتوسع في عضويته لتشمل ليس فقط الدول التي كانت أعضاء في حلف وارسو، وإنما أيضا التي كان يتشكّل منها الاتحاد السوفييتي نفسه، ففي عام 1999 ضم "الناتو": بولندا والمجر وجمهورية التشيك. وفي 2004 ضم: بلغاريا وأستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا. وفي 2009 ضم ألبانيا وكرواتيا، ثم الجبل الأسود في 2017. وبدلا من الشروع في إحياء نظام الأمن الجماعي، بالعمل على تفعيل المواد التي جمدتها الحرب الباردة في ميثاق الأمم المتحدة، خصوصا المواد 43 و45 و47، بدأت الولايات المتحدة تفكّر في توسيع نطاق صلاحيات حلف الناتو، وفي استخدامه ذراعا عسكرية بدلا من مجلس الأمن ولجنة أركان حربه المصابة بالشلل. وفي هذا السياق، تدخل "الناتو" في أزمات كوسوفو وأفغانستان وليبيا وغيرها، متخليا بذلك عن طبيعته حلفا دفاعيا يستمد شرعيته من المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
كان الهدف من توسيع نطاق العضوية في حلف شمال الأطلسي، المعلن والمضمر، محاصرة روسيا الاتحادية
كان الهدف من توسيع نطاق العضوية في حلف شمال الأطلسي، المعلن والمضمر على السواء، محاصرة روسيا الاتحادية، والحيلولة دون تمكّنها من استعادة النفوذ الذي كان للاتحاد السوفييتي من قبل، وهو هدف لم يكن بمقدور روسيا أن تتحدّاه، خصوصا خلال الحقبة الأخيرة من القرن العشرين والحقبة الأولى من القرن الواحد والعشرين التي انكبت فيها على إعادة بناء هياكلها ومؤسساتها الداخلية المحطمة. ولأن الولايات المتحدة راحت تتمادى في غيها إلى درجة إقدامها على نشر منظومات صواريخ باليستية في الدول المتاخمة لروسيا، فما إن بدأت هذه الأخيرة تستعيد قوتها حتى راحت بتحدّي الولايات المتحدة وتعمل على عرقلة خطط حلف الناتو التوسعية، ومن ثم رأت في انضمام جورجيا وأوكرانيا إليه خطا أحمر لن تقبل بتجاوزه. وكانت البداية المواجهة في جورجيا عام 2008، ثم في أوكرانيا عام 2014، حيث تمكّنت روسيا من ضم شبه جزيرة القرم، وها هي الأزمة تتجدّد في أوكرانيا بعد أسابيع قليلة من قرار روسيا التدخل عسكريا في كازاخستان لمساندة نظامها الحاكم ضد ما اعتبرته مؤامرة غربية لتدبير ثورة ملونة جديدة فيها!. وهي أزمة قد تؤدّي إلى نزاع مسلح على نطاق واسع، خصوصا إذا قامت روسيا بغزو عسكري شامل لأوكرانيا، كما تزعم وسائل الإعلام الغربية، الأمر الذي تنفيه روسيا تماما. لكن روسيا ستصرّ، في جميع الأحوال، على الحيلولة دون انضمام كل من جورجيا وأوكرانيا إلى حلف الناتو، مهما كانت التكلفة.
كان قيام الأحلاف العسكرية، في نهاية الأربعينات ومنتصف الخمسينات من القرن الماضي، قد أثار، في حينه، جدلا قانونيا عميقا بشأن مدى مشروعيته، انتهى إلى أنها لا تعدّ من قبيل المنظمات الإقليمية التي تسري عليها أحكام الفصل الثامن من ميثاق الأمم المتحدة، وأنها أقرب ما تكون إلى الترتيبات الدفاعية الجماعية التي يجيزها نص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، غير أن إقدام حلف وارسو على حل نفسه، من ناحية، ومد حلف الناتو نطاق صلاحياته، من ناحية أخرى، لتشمل أمورا يصعب اعتبارها من قبيل الترتيبات المتعلقة بحق الدفاع الشرعي عن النفس، جعل من حلف الناتو في الواقع ليس فقط منظمة غير شرعية، من منظور ميثاق الأمم المتحدة، ولكن أيضا، وعلى وجه الخصوص، عقبة كأداء أمام تفعيل نظام أمن جماعي عالمي كانت الحرب الباردة قد جمّدته، وبالتالي أصبح عقبة كأداء تعترض طريق تحقيق السلم والأمن الدوليين.
لن يتمتع أي حديث عن إصلاح الأمم المتحدة بأي مصداقية إلا إذا اقترن باستعداد الدول الغربية عموما، والولايات المتحدة بصفة خاصة، لحل حلف الناتو.