هل تطيح شعبوية قيس سعيّد النظام السياسي؟
جاء من خارج الحياة السياسية. لم يعط أهمية لمؤسسات الدولة الأساسية، كمجلس الوزراء، وقد عطّله، ومجلس الشعب، ولم تعجبه المكابشات فيه. خشيته من أن تُرفض قراراته أو تُحجَّم سلطاته منعته من التوقيع على قانون لتشكيل المحكمة الدستورية العليا، فتعطّل دورها التحكيمي في الفصل بين السلطات وتحديد مهامها ومنع التداخل بينها، والتحكيم بينها حين تستعصي المشكلات. صار الرئيس التونسي هو المفسّر للدستور وللقوانين، والآن يريد أن يكون هو المنفذ والمراقب والقاضي كذلك! مقابل تهميشه دور مؤسسات الدولة المدنية، عزّز علاقته مع المؤسسات "القمعية"، وجاء انقلابه مدعوماً منها، ومحاطاً من كبار الضباط العسكريين والأمنيين. إذاً أجرى قيس سعيّد انقلاباً على مؤسسات الدولة، وخالف حتى القانون الذي افترض أنه يعطيه الإذن بذلك. هذا ما قاله كبار الدستوريين، وفي مقدمتهم عياض بن عاشور، وأن سعيّد خالف المادة 80 من الدستور شكلاً وجوهراً.
استند سعيّد كذلك إلى الأزمة الاجتماعية المتفاقمة، وانخفاض قدرة وزارة الصحة والمؤسسات المرتبطة بها على مواجهة جائحة كوفيد 19، وازدادت خطورتها أخيرا بشكل حاد. ليس هناك من خطرٍ داهم ليقيم الانقلاب. المشكلة الحقيقية في تونس عدم قدرة النظام السياسي على إخراج البلاد من أزمتها الاقتصادية والاجتماعية، وغرقه في مناحراتٍ في مجلس النواب وتعطيل تشكيل الحكومة، ولقيس سعيّد ذاته دورٌ في هذا. قام النظام السياسي التونسي على المحاصصات بين الكتل الأقوى، ولا سيما حركة النهضة، والاتحاد العام للشغل، ورأينا التحاصص بين الباجي السبسي وراشد الغنوشي، والذي كان له أثر سيئ على عدم إيجاد مداخل حقيقية لمشكلات تونس المذكورة. أي أن الأزمة السياسية تلك هي التي أوصلت قيس سعيّد إلى الرئاسة، حيث هناك تضرّر اجتماعي كبير من الخلافات في مجلس النواب، بينما الناس ينتفضون وينتفضون، وليس من نهاية للأزمة التي هم فيها.
يُفترض بالقوى السياسية الرافضة للانقلاب تشكيل جبهة متّحدة، ويفترض ألا تكون بقيادة حركة النهضة
حصل الانقلاب، فما العمل؟ سيحاول قيس سعيّد وضع كامل السلطات تحت يديه، وبذلك يقيم الأساس الأوّل لديكتاتورية مستمرّة. مشكلته هنا بالضبط. نعم، لقد ناصرته قطاعاتٌ شعبيةٌ كبيرة حين ترشّح وانتُخب، والآن هناك قطاعات شعبية واسعة تؤيده كذلك، وتتكوّن بأغلبيتها من الفئات المهمشة والعاطلة من العمل، ومن غير المنخرطة بالعمل السياسي. يشار هنا إلى أن أغلبية القوى السياسية، ليبرالية، ويسارية، وأبرز الفاعلين في الوسط الثقافي رفضت الانقلاب وسمته كذلك.
الآن الرئيس معزول تقريباً، وهو بالأصل لا يرى الطبقة السياسية إلّا فاسدة وفائضة عن الحاجة، ويجب محاكمتها. هذا يعني أنه سيشكل حكومةً من تكنوقراط، أو حكومة من شخصياتٍ موثوقة، وستتبوأ إدارة الدولة بعض الوقت. وهنا نحن أمام خيارين، تمديد إضافي لتجميد البرلمان أو الإعلان عن انتخابات نيابية مبكرة، وهذا لن يتحقق، باعتبار أن الرئيس يطمح إلى تغييرٍ كبير في النظام السياسي، ويبدو أنّه يريده رئاسياً بامتياز، وللدقة ديكتاتورياً. سيشكل حكومة لمعاونته في إدارة شؤون الدولة، وسيكون هو المسيطر عليها، وحينها ستتضح له فعلياً مشكلات تونس، وسيجد نفسه، وقد أخفق هو، وحكومته، أنه أمام مظاهرات اجتماعية عنيفة.
كانت الحكومة تتجه نحو اقتراض دولي لإدارة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وليس لحلها
يُفترض بالقوى السياسية الرافضة للانقلاب تشكيل جبهة متّحدة، ويفترض ألا تكون بقيادة حركة النهضة، حيث هناك تململ شعبي من دورها منذ 2011، وتراجع عدد المنتخَبين منها برلمانيا يوضح هذه الفكرة. وأيضاً لعب التصعيد في البرلمان بين الحزب الدستوري الحر ونواب "النهضة" دوراً في تحميلها التأزم المتعدّد الأوجه الذي تعاني منه الدولة. عدا ذلك، هناك تهميش لدور الإسلام السياسي في المنطقة أكثر فأكثر، وليس كما قيل إن الإدارة الأميركية ستعيد لهم دوراً في الأنظمة السياسية العربية، كما كان الأمر في زمن الرئيس أوباما.
الجبهة الجديدة، وقد فَرض عليها سعيّد التشكل، معنية بالابتعاد عن خوض النضال ضد الديكتاتورية من زاوية أنها تمثل الديموقراطية المنتخبة المؤودة، وضد الديكتاتورية المستحدثة. ليس هذا المدخل المناسب لتفعيل دور الشعب التونسي وقواه السياسية والفكرية والأدبية وإيقاف مغامرة الرئيس. المدخل هو تقديم برامج سياسات إنقاذيه للأزمة الاقتصادية والاجتماعية، والتظاهر تحت يافطة شعارات متعدّدة الدلالات، وتبدأ بالاجتماعي والاقتصادي.
سيستفزّ قيس سعيّد الآن القوى الرافضة له، وسيبدأ بشكلٍ مركز حملاته ضد حركة النهضة، فهي، وعلى الرغم من تراجع شعبيتها، ما زالت القوة الكبرى في البرلمان، وهي أكثر القوى السياسية تنظيماً. وبالتالي سيعمل على تحطيمها بشكل كبير. نموذجه في ذلك عبد الفتاح السيسي. دلّ إنهاء حركة النهضة الاعتصام أمام مجلس النواب على تفكير عقلاني، فالقضية لا تتحدّد بخسارتهم هم الحكم، بل بخسارة تونس التجربة الديمقراطية، وفي تعطيل الحياة السياسية برمتها، وإدخال البلاد في المجهول، وهذا ما يستدعي تشكيل الجبهة المتّحدة.
سيحاول قيس سعيّد وضع كامل السلطات تحت يديه، وبذلك يقيم الأساس الأوّل لديكتاتورية مستمرّة
من الضرورة التمييز بين مصر وتونس، فالأخيرة لم يُعرف عن جيشها تدخل بالسياسة، وهو لا يمتلك اقتصاداً قائماً بذاته، كالجيش المصري مثلاً، ودعمه الرئيس الحالي مرحلي، سرعان ما سيستفيق على خطورة دوره في تأييد رجلٍ يتوهم نفسه ديكتاتوراً، وأنه فوق السياسة، ويعرف أهواء الشعب، وأنه الممثل الوحيد عنه. ليست مشكلة تونس في عدم قدرتها على مواجهة جائحة كورونا، بل في المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي كانت الحكومة تتجه نحو اقتراض دولي لإدارتها وليس لحلها، فكيف سيتمكّن قيس سعيّد، والذي ترفضه أغلبية القوى السياسية الوطنية، وتحذر من ديكتاتوريته بيانات حقوق الإنسان، وسواها. .. المقصد هنا أن الرجل لن يجد من يقرضه إلا الإمارات، وربما السعودية، وهذا لن يكون بلا أثمان كبيرة، فماذا تمتلك تونس لتعطيه لهذه الدول؟
إنهاء ثورة تونس هو الهدف من الانقلاب. سيكتشف "الجنرال" قيس سعيّد بدوره أنّه أغرق البلاد في فوضى كبيرة، حيث من الصعب أن يطيعه الجيش طاعةً عمياء، فالجيش التونسي أقرب إلى الجيش اللبناني، وهذا يعني أن قدرته محدودةٌ على إشادة ديكتاتورية. الحل الأسرع للخلاص مما ورّطه فيه قيس سعيّد استلام الحكم والإطاحة بقيسٍ نفسه، والإعلان عن انتخابات مبكرة، وتشكيل حكومةٍ مؤقتةٍ لإدارة شؤون الدولة. لن يستفيد الرئيس من شعبويته كثيراً، ولن يظل الجيش طويلاً في خدمته، ومن هنا سيكون تشكيل جبهة سياسية موحدة، وليس بقيادة حركة النهضة، وتعكس مطالب الشعب، أهم رد عملي وسياسي لإيقاف تأسيس الديكتاتورية في تونس.
الجبهة المتحدة ستراها قيادة القوى العسكرية والأمنية جيداً، وستّتجه نحوها من أجل إنقاذ النظام السياسي المأزوم بحق في تونس. لن ينجح قيس سعيّد في طموحاته، ولكن لن يعطي الشعب مجدّداً ثقته بقوى سياسية لا تحدّد له خريطة طريق واضحة، وببرنامج زمني محدد لإخراجه من أزمته الاقتصادية والاجتماعية.