هل تعدّ حرب أكتوبر منعطفاً تاريخياً؟
استدرك بعضهم على كاتب هذه السطور أن يكون حديثه عن المنعطفات التاريخية في تاريخ نهضتنا العربية بتناوله تلك الحوادث الخارجية سلبية التأثير، من دون أن نتناول أحداثنا الداخلية، خصوصا الإيجابية منها. وفي هذا الإطار وبمناسبة مرور 50 عاما على حرب أكتوبر 1973، والتي مثلت منعطفا مهما لا يستطيع أحد إنكارَه كانت أهمية هذا الاستدراك، هذا الانتصار الذي أثبت قدرة العرب على مواجهة الكيان الصهيوني وإلحاق الهزيمة به، فقد شكّل هذا الحدث تأثيرا خطيرا لا يقلّل منه فشل النظم العربية في استثماره وإحسان توظيفه. وقد تذكّرت مقالا من وحي هذا الاستدراك، كتبه الحكيم طارق البشري، وضمّنه كتابه "العرب في مواجهة العدوان"، وكان بعنوان "من أيام العرب: 11 سبتمبر 2001، أم 28 سبتمبر 2000"، وقد أشار فيه إلى حدث الانتفاضة الفلسطينية في مقارنته بالحدث الذي أسماه الأميركي، ويقصد به "11 سبتمبر". وهنا نؤكّد أن من أهم عيوب النهضة العربية أن ينقض بعض العرب أيامهم، ويجعل هذه الأيام الإيجابية تتحوّل بعد ذلك إلى مآلات وآثار سلبية.
وربما لفت هذا الأمر الانتباه إلى ما يعدّ من أزمات النهوض العربي في هذا المقام؛ والتي يجب أن نتوقف عندها ضمن الحديث عن هذين المنعطفين (انتصار أكتوبر والانتفاضة الفلسطينية)، وأهميتهما أنهما يتعلقان بالكيان الصهيوني. وقد يتصور بعضهم أنهما حدثان محليان، ولكنهما، في حقيقة الأمر، يتخطّيان حتى التأثير الإقليمي، ذلك أن هذا الكيان الصهيوني هو صناعة الغرب وصنيعته، ولم ينشأ في منطقتنا عفوا، ولكنه نشأ بوعي وتخطيط ليؤدّي وظيفة باعتباره "كيانا وظيفيا" يخدم الغرب في فترات ممتدّة ومتعدّدة، وهذا الكيان لم ولن يتوانى عن القيام بدوره. وفي الوقت نفسه، لم يقصر الغرب في دعمه وحمايته، بلا قيد أو شرط، سواء في تلك الحروب التي استطاع فيها أن يؤكّد على تفوقه عسكريا، أو في ميادين أخرى نجح في تحقيق نجاحاتٍ على حساب النظم العربية الرسمية وجيوشها.
الكيان الصهيوني هو صناعة الغرب وصنيعته، ولم ينشأ في منطقتنا عفوا، ولكنه نشأ بوعي وتخطيط ليؤدّي وظيفة باعتباره "كيانا وظيفيا" يخدم الغرب في فترات ممتدّة ومتعدّدة
ومن هنا، النظر إلى حرب أكتوبر والانتصار الذي ترتّب عليها يحيلنا الى التعرّف على العناصر المهمة التي شكّلت تغيرا استراتيجيا في تفكير العرب، خصوصا الجيوش النظامية، حيث حدث اتفاق بين مصر وسورية على القيام بعملية عسكرية تزيح عن العرب ذلك العبء الذي جثم عليهم من خلال نكسة 5 يونيو (حزيران 1967). وبات هذا ليس مطلبا شعبيا فقط، بل مطلب رسمي عربي لإحداث بعض التوازن ضمن المواجهات العسكرية في محطاتها المتكررة والمتراكمة، ونتحدّث أيضا عما تحقق استراتيجيا الذي يتعلق بالمفاجأة. والعنصر الثالث، وهو الموقف العربي الداعم لدول المواجهة بطرق وأساليب عديدة، أبرزها استخدام البترول سلاحا في المعركة مع الكيان الصهيوني. ولعل هذه كانت أهم خطوة. وهنا يجب أن نذكر الملك فيصل، رحمه الله، الذي كان له فكر ورؤية عقب النكسة، حينما نعت الكيان الصهيوني بالكوارث والويلات التي يشهدها العالم في خطاب مهم شكّل تشخيصا للطبيعة الوظيفية التي يقوم بها الكيان الصهيوني، في محاولته محاصرة أيّ من حالات الصعود العربي على طريق النهوض، وعلى طريق مدافعة الخصوم والأعداء.
ورغم أهمية هذا الحدث ومحوريته، لم يصمد أمام سياسات الكيان الصهيوني، وكذلك الدعم الأميركي غير المشروط، حيث جرى نسخ إنجازاته، ونقض مكاسبه، فبعد الانتصار المفاجئ على الكيان الصهيوني الذي بدا وكأنه بروفة لحرب تحرير كاملة، حتى لو لم يكن ذلك مقصد بعض الأنظمة التي خاضت هذه الحرب، في ظلّ ما راج من خطابات لقيادات سياسية مركزية، مثل الرئيس المصري، أنور السادات، الذي كان يرى أن 99% من أوراق اللعبة السياسية فيما يتعلق بالصراع العربي الإٍسرائيلي تقع في أيدي الولايات المتحدة، وكذلك تصريحه بشأن حرب أكتوبر بأنها حرب تحريك لا حرب تحرير. وقد أثّر هذا الأمر في رؤيته المحدودة في نظر الآخرين إلى هذا الحدث الذي كان يمكن أن يشكل منعطفا تاريخيا وحضاريا كاملا في مسألة النهضة العربية، واستعادة ما يمكن تسميتها فاعلية النظام الإقليمي العربي الرسمي. وهنا نستحضر الآية القرآنية الكريمة {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل: 92] وقد تجسّد هذا الانحسار في زيارة أنور السادات إلى القدس ومحادثات كامب ديفيد، وما تبعها من اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، وما ترتب على ذلك كله من شرخ في الجبهة العربية التي كانت في أقوى صورها خلال حرب أكتوبر.
"الانتصار المنقوص" في أكتوبر 1973 تحوّل إلى "انتصار منقوض"، بسبب الممارسات السياسية العربية الفاشلة في استثماره استراتيجياً
الأمر الثاني الذي حدث بعد ذلك لينسخ الآثار الإيجابية التي ترتبت على نصر أكتوبر "اتفاق أوسلو"، وكان بين ذوي الشأن الفلسطيني والكيان الصهيوني، ومثّل إضعافا كبيرا للحركة المدافعة عن هذا الصراع العربي الصهيوني ضمن محطّاته الكبيرة، مثلما سبق وفعلت اتفاقات كامب ديفيد. هنا فقط استطيع أن أقول إن هذه السياسات العربية لم تكن إلا تدميرا لكل أثر إيجابي، يمكن أن يكون قد أحدثته حرب أكتوبر. ومع الأسف، كانت النتائج الإيجابية من نصيب الكيان الصهيوني الذي شكل لجنة تحقيق كبرى، كان لنتائجها تأثير كبير على إسرائيل، وإحداث إصلاحات شاملة في كل قطاعاتها السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية. ورغم ما تعرّضت له الدول العربية والنظام الإقليمي العربي من تدهور، إلا أن هناك ضوءا في النفق تمثل في تأكيد متخصّصين ودارسين عديدين للكيان الصهيوني ونظرهم الواعي على أن المعارك التي تدور مع العدو الصهيوني هي معارك وجود لا معارك حدود ضمن رؤية تؤكّد على مصيرية هذا الصراع. وكان من هؤلاء أستاذنا حامد عبدالله ربيع الذي اهتم بالدراسات الصهيونية، وبتلك الدراسات التي تتعلق باستراتيجيات مواجهة العدو، فكانت دراساته التنبوئية عن الكيان الصهيوني ودراسته من الداخل، ثم أكّد أن ما يهز هذا الكيان ويؤثر فيه ليست الحروب النظامية التي تقع بين كل فترة بين الجيوش، وتفوّق فيها العدو الصهيوني، بما في ذلك حرب أكتوبر التي انتصرنا فيها عسكريا وانتصر العدو الصهيوني سياسيا، وكانت بمثابة نموذج على كيف تقضي على انتصاراتك، ولا تستثمرها على المدى الطويل والاستراتيجي في التعامل مع طبيعة هذا الصراع. ولذلك كان تنبؤ أستاذنا هذا أن مواجهة إسرائيل تأتي من الداخل، وليس بمثل هذا الأمر الذي يتعلق بالمواجهات النظامية مع الجيوش العربية المتكرّرة، والتي انتهت في معظمها لصالح الكيان الصهيوني، ضمن دراسة بصيرة لخريطة إسرائيل في تكويناتها الهشّة. وفي سياق دولة مصطنعة، قامت على قاعدة "جيش له دولة"، وفي سياقات أخرى، تعلقت بتسلّح إسرائيل بسلاح نووي، تحاول من خلاله أن تؤكّد أن ميزان القوى سيكون في جانبها ضمن هذا التفوّق الذي تحوزه على كامل الدول العربية؛ ملاحظة مهمة يجب التوقف عندها، أن النظام الإقليمي العربي أصيب بتدهور كبير وبتفكك واسع، ما دفع بعضهم إلى الحديث عن فشله، خصوصا بعض هذه المشاهد التي فتحت باب السلام والتطبيع مع الكيان الصهيوني. ... غاية الأمر أن هذا "الانتصار المنقوص" في أكتوبر 1973 تحوّل إلى "انتصار منقوض"، بسبب الممارسات السياسية العربية الفاشلة في استثماره استراتيجيا.