هل تعود مصر إلى عصر القبيلة؟
عندما تفقد العسكرتاريا الحاكمة في أيما بلد قدرتها على إدارة الأزمات التي تحيق بها، وتعجز عن إيجاد الحلول لمشكلات البلد الذي تحكمه، وعندما تسوء الحال إلى درجة الفصام بينها وبين مواطنيها، تعمد إلى البحث عن مخارج، ولو ضيقة وغير مأمونة العواقب، تعينها على الاسترخاء قليلاً ريثما تعيد إنتاج نفسها، وإنضاج ظروف تسمح لها بالتمدّد والتحكّم من جديد، وهكذا إلى أن يحلّ بها العجز الكامل فتستسلم أو تنتحر!
هذا هو حال طبقة "العسكريتاريا" المصرية التي استوطنت الحياة السياسية سبعة عقود، وعملت على التوغّل في المجتمع، والاستحواذ على مؤسّسات الدولة، والقبض على مفاصل الاقتصاد المصري، وكبح أية معارضة منظمّة وفاعلة، وها هي اليوم تعمد، بعد أن دهمتها ظروفٌ وتحدّياتٌ ليس لها قدرة على مواجهتها، إلى التماهي مع خطط ومشاريع مشبوهة قد لا توفر السلامة والأمن للبلاد.
أحد هذه المشاريع التي طرحت فجأة إعلان ما أطلق عليه اسم "اتحاد القبائل العربية"، وقيل في وصفه إنه "إطار شعبي وطني يستجيب لمتطلبات المرحلة الراهنة"، وفي أهدافه المعلنة "الدفاع عن الثوابت الوطنية" و"الحفاظ على الأمن القومي" و"الحرص على الهوية المصرية"، وهي عناوين فضفاضة وحمّالة أوجه، وقد عقد التنظيم الجديد مؤتمرا سمّى الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس شرف، وإبراهيم العرجاني الذي يلقبه أتباعه "ملك سيناء" لسيطرته ونفوذه رئيساً للاتحاد، وهو شخصية قبلية مثيرة للجدل، قيل إنه يمتلك شركة تجارية برأسمال ضخم. وأطلق الاتحاد على مدينة العجرة المحاذية لرفح التي شهدت المؤتمر اسم "مدينة السيسي" التي ستتحوّل إلى منطقة عازلة بمسافة بضعة كيلومترات، كما أقرّ عقد مؤتمراتٍ في المحافظات الأخرى لتجميع القبائل وتوحيدها.
ثمّة احتمال أن تكون أميركا، ومن ورائها إسرائيل، هي التي أوصت، أو أوحت، بفكرة "اتحاد القبائل" بغرض تهيئة الأرضية لنقل سكّان من غزّة إلى سيناء
جرى كل شيء بسرعة، ومن دون مقدّمات، وقد أثار ذلك أسئلة شائكة، أقلها أنه وُلد وسط أزمة لم تشهد لها المنطقة مثيلاً منذ عقود، إذ ثمّة شعبٌ يُباد على يد قوة متوحّشة استوطنت أرضا ليس لها، وسط دول محبطة عاجزة حتى عن قول كلمة حقّ، وعالم متواطئ ومساند للباطل. هنا تصبح الحسابات معقّدة، ويصبح المشهد مخيفا ومُنذرا بتداعياتٍ كثيرة قد لا تكون مصر قادرةً على احتمالها. وأخطر تلك الأسئلة التي يتحفظ ذوو الشأن في الإجابة عنها احتمال أن تكون أميركا، ومن ورائها إسرائيل، هي التي أوصت، أو أوحت، بفكرة "اتحاد القبائل" بغرض تهيئة الأرضية لنقل سكّان من غزّة إلى سيناء، وهي الخطة القديمة الجديدة لإفراغ فلسطين من أهلها، وإن على مراحل، مقابل إرضاء مصر بمنحها "جائزة" كبرى ربما تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات قد تساهم أكثر من دولة خليجية في تغطية الجزء الأكبر منها.
وثمّة سؤال آخر يتعلق بحراسة الحدود التي قيل إنها ستكون من بين مهمّات التنظيم الجديد، وهذه المسألة تثير شكوكاً كثيرة. صحيح أن "اتحاد القبائل" ليس جيشا، ولا يُراد منه أن يكون كذلك، حتى في أذهان القائمين عليه، لكنه سيكون أقرب إلى "مليشيا" سوف تكون لها حصّة في القرار متى تستمكن فتتمكّن، وقد تصبح رديفا للجيش النظامي، وربما أكثر سلطة ونفوذاً وتأثيراً، وقد تشكّل خطرا على وحدة مصر وتماسكها، وعاملاً على تدمير الهوية المصرية القائمة على التنوّع والاختلاف، والتفاعل الإيجابي بين كل المكوّنات الاجتماعية. وفي مصر خوفٌ مشروعٌ ومبرّر من أن يعمل الاتحاد على تمزيق الشعب المصري، وتحويله الى شعوب، كما فعلت مليشيات الحشد الشعبي في العراق، وإذا ما قدر له أن يتسلّل ليصبح جزءاً من "الدولة العميقة"، ويأخذ مكانا له في إقرار السياسات والبرامج والخطط، كما يفعل "الحشد الشعبي" اليوم، فسنكون أمام كارثة عربية جديدة تعيد مصر "أم الدنيا" إلى ما قبل 3200 سنة قبل الميلاد، و يثير الحزازات بين مكوّنات المجتمع المصري المتآلفة والمتحابة على مدى قرون.
هنا يمكن القطع بأن ما يحدُث اليوم لعب بالنار، وقد يعيد مصر إلى عصر القبيلة، كما قد يؤجّج الفتنة النائمة التي طالما أراد بعضهم إيقاظها. ومطلوبٌ من كل المصريين، وعلى اختلاف مشاربهم، أن يكونوا أكثر يقظةً كي لا يقعوا في الفخّ الذي يريد أعداؤهم إيقاعهم فيه.