هل تفجّر غزّة ربيعاً عربياً ثانياً؟
تشتعل النفوس في العالم العربي العاجز عن فعل أي شيء لغزّة وأهلها المحاصرين بين نيران القتل الوحشية الإسرائيلية التي تفتك بهم ليل نهار، ولم تترك بقعة من وجه هذا العالم، إلا ووصلت إليه دماء الأطفال والنساء والشيوخ، الأمر الذي استدعى أن تتحوّل غزة، وفلسطين من خلفها، إلى أكثر الكلمات ترديدا في هذا العالم الذي لم يجد بدّا من التظاهر معها، منتصرا لإنسانيته التي طالما تلاعبت بها دعايات إسرائيلية وغربية طوال سبعة عقود من عمر هذا الصراع.
وجد المواطن العربي نفسه حبيس بيته، لا يقوى حتى على التحرّك والتظاهر، بل الأكثر من ذلك، لم تجد أنظمة عربية من سبيل إلا تشديد الرقابة والتضييق على هذا المواطن، فعواصم عربية كبيرة، كانت لها بصمة واضحة في مسيرة الصراع العربي الإسرائيلي، لم يُسمح لها بالتظاهر على الأقل، أسوة بعواصم غربية دأبت على أن تتظاهر في عطلة نهاية الأسبوع نصرة لغزّة وفلسطين.
حالة قمع، يقابلها موت تتناثر دماؤه من على شاشات التلفاز، ووحشية إسرائيلية متناهية فاقت كُلّ ما سبق من مجازر، والمواطن العربي يجد نفسه لأول مرة قابعا في بيته يلتهم الصبر تلو الصبر يبحث عن سبيل للخروج من هذا العجز المميت الذي أصابه، والذي أصاب من قبله النظام العربي الذي فشل في ممارسة أي دور أو ضغط، من أجل وقف هذا العدوان الهمجي والحاقد.
المخطّط الصهيوني هذه المرّة كبير، ونيرانه لن تترك عاصمة عربية من دون أن تصل إليها طال الزمن أم قصر
في عملية الرصاص المصبوب التي شنتها دولة الاحتلال نهاية عام 2008 ومطلع عام 2009 على غزّة، والتي شهدت أيضا، مجازر وحشية وبشعة، سعت في حينها قطر إلى الدعوة إلى قمّة عربية أطلقت عليها قمّة غزّة، غير أن أنظمة عربية يومها كانت تتآمر سرا لإفشالها، ولم يعد الأمر خافيا على أحد، ولم يعد مجرّد تكهنات، فهناك اعترافات مسجلة من مسؤولين عديدين في تلك الفترة. وقد أظهرت غزّة يومها، عجز هذا النظام العربي عن مواجهة التحدّيات، وعرّت أنظمة عربية اللسان صهيونية الهوى، وكشفت عن فضائح ما كان يجري في كواليس الغرف المظلمة، من دعم أنظمة عربية لهذا العدوان.
لم يطل الأمر كثيرا، نحو عام ونصف العام، بعد تلك العملية الوحشية التي شنتها آلة القتل الإسرائيلية، وبعد تلك المواقف العربية المخزية، وبعد التآمر على غزّة وفلسطين، يضاف إليها كم هائل من المشكلات الداخلية التي فشلت أنظمة عربية في مواجهتها، لم تجد الشعوب العربية المقهورة من بدٍّ سوى الانتفاض لكرامتها، فكان الربيع العربي مع نهايات عام 2010 في تونس ليصل مع بدايات عام 2011 إلى مصر وليبيا وتونس واليمن وسورية، وسورية حكاية أخرى، فالربيع فيها قتلت زهوره آلة القتل الوحشية لنظام دمشق وحلفائه من روس وإيرانيين وحزب الله، ولكنها ستزهر وإن طال الزمن.
ربما الحال اليوم أشد بؤسا مما جرى في عملية الرصاص المصبوب، فالمواطن العربي الذي سُمح له بالتظاهر والتعبير عن رأيه على الأقل، ممنوع من هذا الحقّ، رغم أن المخطّط الصهيوني هذه المرّة كبير، ونيرانه لن تترك عاصمة عربية من دون أن تصل إليها طال الزمن أم قصر، كما أن المنصّات الرقمية أتاحت للجميع متابعة ما يجري بكل تفاصيله، يقابل ذلك كله فشل المنظومة الرسمية العربية في اتخاذ موقفٍ يوازي هذا الموت الهمجي الذي تشنه حكومة نتنياهو. والأكثر من ذلك ما يرشح من معلوماتٍ هنا أو هناك أن أنظمة عربية متورطة في دعم حكومة الكيان الإسرائيلي في هذه الحرب، فهي لا ترى في "حماس" إلا ما تراه تل أبيب، حركة مسلحة تنشر الفوضى والإرهاب.
على النظام العربي أن يبدأ من فوره في إعادة لملمة نفسه، والإسراع في وقف هذه الحرب المجنونة
إزاء هذا الموقف المتخاذل والصمت المعيب والانتهازية التي تمارسها بعض الأنظمة العربية لتصفية حساباتها مع هذا الطرف أو ذاك، على أشلاء الشعب الفلسطيني، ذلك كله يمكن أن يفجر ربيعا عربيا ثانيا، قد يكون مختلفا، والخشية ألا يكون سلميا، على غير ما كانت موجة الثورة العربية الأولى.
على النظام العربي أن يتنبه إلى تلك المخاطر، وأن يبدأ من فوره في إعادة لملمة نفسه، والإسراع في وقف هذه الحرب المجنونة، وإيقاف مسار التهجير الذي تسعى له حكومة نتنياهو بأي ثمن، فلديه الكثير مما يمكن أن يلاعب به الغرب ومصالحه، وهو قادرٌ، إن أراد، وعليه أيضا أن يتخلى عن عدائه المعلن والخفي لحركة حماس، وأن يعيد تريب بيته الداخلي من خلال مقاربة جديدة تشكّل مظلّة للشعب الفلسطيني، وتحمي وجوده على أرضه، فطوفان الأقصى وفّرت لأول مرّة، ورقة مهمة لدى النظام العربي إن أحسن استغلالها، فلأول مرّة تسعى أنظمة الغرب، وفي مقدمتها أميركا، إلى تفعيل حلّ الدولتين.
الربيع العربي قادم، وربما سيكون أول النتائج التي يحصدها النظام العربي من الحرب الإسرائيلية على غزّة، إلا إذا وجد هذا النظام لنفسه موطئ قدم في حماية الشعب الفلسطيني، والخروج من حالة الموت السريري التي يعاني منها منذ عقد وأكثر.