هل تكسب "الحرّية والتغيير" سياسياً وتخسر جماهيرياً؟
تواصل قوى الحرّية والتغيير جولاتها في دول الجوار السوداني، المعنيّة بالملفّ السوداني في محاولةٍ، لأول مرة منذ اندلاع الحرب، لإيجاد صوتٍ مدنيٍّ يناقش علناً عملية وقف إطلاق النار وبناء عملية سياسية جديدة تقود إلى سلطة مدنية انتقالية.
خلال الأشهر الماضية، ظلّ دور التحالف السياسي الأكبر وقت ثورة ديسمبر محجّماً بسبب الحرب. وظلت الاتصالات القليلة الممكنة تدور بين قيادات "الحرّية والتغيير" وطرفي النزاع، ما أنتج المبادرة الأميركية السعودية.
كانت محاولات المدنيين لوقف الحرب قد فشلت مع انطلاق الرصاصة الأولى يوم 15 إبريل/ نيسان. لا يمكن عدم لوم "الحرّية والتغيير" على أنها احتاجت وقتا طويلا حتى تتماسك عقب صدمة الحرب، وترتب صفوفها وتتحرّك بشكل واسع. لكنها أخيراً أجرت اجتماعاً لمكتبها القيادي في القاهرة (24 يوليو/ تموز الحالي)، خلص إلى نتائج لا يمكن الزّعم أنها مُرضية بالكلية، لكنها على الأقل خطوة.
تعرّضت قوى الحرّية والتغيير لحملات تشويه، وتسخير ماكينة شائعاتٍ ضخمةٍ منذ بداية الثورة السودانية. تتحمّل هي جزءاً من اللوم للضعف والأخطاء في ملفات. وثبت أن تقديرات سياسية لها ما كانت موفقة. وعند الوصول إلى السلطة الانتقالية أصبح أمام "الحرّية والتغيير" عقبات. توقعات المواطنين وتحفّزهم إلى التغيير، وفلول النظام السابق. لم تنتصر "الحرّية والتغيير" في معركتيها. ولا انتصر المواطن. لأن النقد في خضمّ الشائعات المجنونة وهياج الكراهية لم يعد له مكان يقف فيه. صمّمت حملات الكراهية بعناية، حتى لم يعد من المهم أن هذا السياسي أو ذاك المسؤول أخطأ وعليه أن يتراجع. تحوّل الأمر إلى حفلات شيّ. وكانت الشائعات غير المعقولة تصدّق وتنتشر وتكتسب قوة الحقيقة، بينما تظلّ توضيحات الحكومة الانتقالية حبيسة دوائرها الضيقة.
اكتسبت "الحرّية والتغيير" قدراً من التأييد مرة أخرى عقب انقلاب 25 أكتوبر (2021). وعلى الرغم من أن اختيارها للتفاوض مع السلطة العسكرية لم يرُق للشارع الثوري الغاضب، لكنه بعث آمال المواطنين غير المسيّسين، والذين حلموا بأن تنتهي الأمور بسلاسةٍ عبر تفاوض يخرج الجيش من السلطة وتعود الحياة إلى طبيعتها تحت سلطة مدنية انتقالية.
مرّة أخرى، انهار ذلك كله في الحرب. ووجد خصوم "الحرّية والتغيير" الفرصة مناسبة للقضاء عليها مرّة أخيرة، بإشاعة أن القوى المدنية السياسية تحالفت مع قوات الدعم السريع للوصول إلى السلطة! كانت آلة الحركة الإسلامية النشطة ما زالت قادرةً على توجيه الرأي العام، وزرع الشائعات التي تنمو بهدوء من دون تفكيرٍ فيها. يعينهم في ذلك ساسةٌ مدنيون يحسبون دوماً ظهيراً مدنياً للحكم العسكري ويحلمون بسلطةٍ يتولاها الجيش، يوزّع عليهم بعضها تفضلاً. فانطلقت اتهامات مثل "ياسر عرمان مستشار لقائد الدعم السريع"، أو "الدعم السريع يحمي منازل قيادات الحرّية والتغيير". وتوّجت بغضبة عضو المجلس العسكري، الفريق ياسر العطا، متهماً "الحرّية والتغيير" بأنها حليفة للمليشيا. واتّخذت "الحرّية والتغيير" لأول مرة منذ زمن خطوة قوية بالردّ على هذا التصريح، وهي خطوة تأخّرت وأورثت "الحرّية والتغيير" تشويهاً كثيراً.
بديهي أن السياسة لا تمارس بالصراخ والشعبوية. بل تحتاج إلى الخطاب الهادئ المتماسك. لكنها كذلك لا تتعالى على أكاذيب الشعبوية وشائعات الخصوم. لا تذهب الشائعات إلى العدم. إنما تتراكم، بعضها فوق بعض حتى تصبح يقينا لا يمكن هدمه.
على مدار الأسابيع التي سبقت حرب الخرطوم، كان الناس، إلا قلة، يسألون عن الاتفاق الإطاري الذي يجري النقاش بشأنه، وملأت الشائعات مكان الحقائق، لأن محاولات "الحرّية والتغيير" القليلة لتمليك المعلومات ما كانت كافية لمواجهة آلة الشائعات.
أمام "الحرّية والتغيير" فرصة جديدة اليوم في سعيها إلى إيقاف الحرب. أن تفعل ذلك أمام الناس، وبصوت مسموع يصل إلى الجميع. هذا أمر لا تكفي فيه المؤتمرات الصحافية والبيانات الجامدة. فبينما كان اجتماعها في القاهرة منعقداً، كان السودانيون يتداولون بكثافة شائعات وأكاذيب عن طلب "الحرّية والتغيير" اجتماعاً مع قيادات إسلامية، واعتداء مواطن سوداني بالضرب على قيادي سياسي! هذا ما سيبقى عند كثيرين من اجتماع القاهرة، لا إعلانه.
لا تمتلك "الحرّية والتغيير" وقتاً كثيراً، فربما تكون هذه فرصتها الأخيرة. عليها أن تنجز الكثير في تلافي أغلاطها الكارثية السابقة، وأن تنفتح على القوى المدنية مهما كانت التنازلات، وأن تجعل الشعب شريكاً دائماً بمعرفة ما تفعله وما تنويه.