هل تكون ليبيا حلقة التطبيع المقبلة؟
كان دالّاً للغاية ما أبداه جهاز الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) من انزعاج بسبب ''صعوبة إصلاح الضرر الذي ترتب عن كشف وجود علاقات بين إسرائيل وليبيا''، بعد اللقاء الذي جمع، في روما، وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين مع نظيرته في حكومة الوحدة الوطنية الليبية نجلاء المنقوش. ويعكس هذا الانزعاج استراتيجية إسرائيليةً مبيَّتةً تتوخّى التطبيع الشامل مع الدول العربية، مع الأخذ بالاعتبار ظروف كل بلد، وموازين القوى السياسية والاجتماعية وتوجّهات النخب الحاكمة وأولوياتها وتحالفاتها الداخلية والخارجية. ولعل هذا ما يفسّر الانتقادات التي طاولت الخارجية الإسرائيلية من الموساد، وكذلك من حلفاء إسرائيل، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، ما يعني أن انكشاف لقاء روما يربك هذه الاستراتيجية، ويضرّ بالمصالح الإسرائيلية التي تتداخل فيها حسابات السياسة والأمن والاقتصاد.
نجحت هذه الاستراتيجية في جرّ دول عربية إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل خلال السنوات الثلاث المنصرمة. وإضافةُ حلقة، بحجم ليبيا، إلى مسار التطبيع لا يعزّز فقط ''شرعية'' إسرائيل الإقليمية والدولية ويخدم مصالحها في الإقليم، بل يمكّنها كذلك من أوراق جديدة للتعاطي بقدرٍ أكبر من العنصرية والعدوانية مع الشعب الفلسطيني، وتعزيز مخطّطات الاستيطان والتهويد والأَسْرلة، وبالتالي تصفية القضية الفلسطينية والإجهاز على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. وغير خافٍ ما تمثله ليبيا من ثقلٍ في جيوبوليتيك الإقليم، ليس فقط بسبب ثرواتها من النفط والغاز، بل أيضا بسبب موقعها الجغرافي الذي يجعلها تتصدّر أولويات الدول الكبرى، باعتبارها حلقة وصلٍ بين شرق المتوسط وجنوبه من ناحية، وجنوب الصحراء والساحل وغرب أفريقيا من ناحية أخرى. وبالنسبة لإسرائيل التي تجمعها بمصر معاهدة سلام منذ 1979، يعزّز التطبيع مع ليبيا مكاسبها الأمنية المترتّبة عن هذه المعاهدة، بالنظر إلى الطبيعة الجيوسياسية للجوار المصري الليبي. كما أن هذا التطبيع يخدم طموحاتها في السودان وتشاد اللتيْن تشكلان لها جسرا للتغلغل داخل القارّة الأفريقية، وإيجادِ مواقع نفوذ جديدة فيها أسوةً بالقوى الدولية الكبرى. ومن ثمَّ، تصبح ليبيا، من منظور دولة الاحتلال، حلقة رئيسة في توسيع حزام هيمنتها بما يتجاوز الإقليم نحو أقاليم أخرى.
من الصعب تصديق أن لقاء وزيرة الخارجية الليبية بنظيرها الإسرائيلي كان بمبادرة شخصية منها، خصوصا أن المزاج الشعبي الليبي يرفض أي شكل من أشكال التطبيع مع إسرائيل، ولا يتردّد في إشهار تشبثه بالقضية الفلسطينية. فما الذي حدث؟ هل نجحت إسرائيل في جعل التطبيع في قلب التقاطب السياسي الحادّ الذي تشهده ليبيا؟ هل يمكن المجازفة بالقول إن إقالة الدبيبة وزيرة الخارجية كانت بسبب تسريب لقاء روما، ولم تكن اعتراضا عليه في حد ذاته؟
لم تكن إسرائيل بعيدة عن المشهد الليبي منذ سقوط نظام معمّر القذافي (2011)، فقد خطب ودّها اللواءُ المتقاعد خليفة حفتر، الذي لم يأل جهدا في الحصول على دعمها السياسي والعسكري في سعيه المعلوم إلى حسم معركة السلطة لصالحه. وعلى الأغلب، كانت هناك تفاهمات بينه وبين مسؤولين إسرائيليين بشأن مشروع تطبيع إسرائيلي ليبي. لكن إخفاقه في السيطرة على طرابلس، وعدم تحمّس القوى الإقليمية والدولية للاستمرار في المراهنة عليه، سببان رئيسان أخرجاه من الحسابات الإسرائيلية. وهو ما يعني أن خطّة إسرائيل للتطبيع مع ليبيا متغيرةٌ وغير ثابتة، تأخذ بعين الاعتبار ميزان القوى وتموّجاته على الصعيدين السياسي والعسكري.
يبدو الكيان الصهيوني واعيا بأهمية استغلال المناخ العام الذي خلّفه فشل الثورات العربية وتغوّل الاستبداد الجديد، بما يساعده على توسيع هامش الحركة أمامه لجرِّ دول عربية أخرى لإبرام اتفاقات تطبيع معه، وبالأخص الدول الغارقة في العنف والاحتراب الأهلي (السودان، ليبيا ...)، حيث تمثّل له حلباتٍ مفتوحة لاختبار فاعلية استراتيجيته في التطبيع، فهشاشة الاجتماع السياسي الوطني، وتفكّك النسيج المجتمعي بسبب غلبة النزعات القبلية والعشائرية والطائفية، وضعف مؤشّرات التوافق الوطني، ذلك كله يُمثّل، بالنسبة، لهذا الكيان، أرضية خصبة لتوسيع دائرة التطبيع في المنطقة.