هل ستكون انتخابات مجلس الشعب السوري الأخيرة؟
وقفْتُ ربع ساعة أمام أحد مراكز الانتخابات، شاهدتُ امرأتين فقط تخرجان من مركز الاقتراع، وخارج المركز كان هناك أكثر من عشرة شبّان يحملون أوراق قوائم المُرشّحين، ويتقاضى كلٌّ منهم مبلغاً من المال، ولولا هذا لما فعلوا ذلك، وإلى جانبهم أوراق كثيرة مرميّة في الأرض، وفي دلالة هذا سخافة همروجة الانتخابات.
أعلنت أغلبية بلدات محافظة السويداء رفضاً كاملاً للانتخابات، وحطّمت صناديق الاقتراع وحرقتها، وأغلقت أغلبية المراكز. وفي بلدة نوى في محافظة درعا، منع الأهالي الانتخابات، واعتبرت فعّاليات البلدة أنّ يوم الانتخابات يوم حداد. في الحسكة، رفضت قوّات سوريا الديمقراطية (قسد) السماح بالانتخابات، وأُجريت في المجمّعات الأمنية للنظام فقط، وفي المناطق الخارجة عن سيطرة النظام؛ في بلدات الشمال أو إدلب وبعض أرياف حماة وحلب، لم تكن هناك أيّ انتخابات.
لدى النظام في سورية مشكلة كبيرة في الشرعية، ورغم شكلية الانتخابات يتمسّك بها باعتباره لا يزال يُمثّل سورية في المحافل الدولية
هناك شرعية منقوصة بالكامل، واللاجئون، وهم قرابة عشرة ملايين، ليس مسموحاً لهم المشاركة في الانتخابات. أراد النظام بهذه الانتخابات (منذ 2012 جرت أربعة انتخابات من ضمنها الحالية) أن يُجدّد شرعيته، ولكنّ الانخفاض الشديد في نسبة المُنتخِبين، رغم الغشّ فيها، منع ذلك، وكانت نسبة المشاركة في انتخابات 2020 هي 33% فقط، وبحسب اللجنة القضائية العليا للانتخابات السورية لم تتعدَّ نسبة المشاركة في انتخابات شهر يوليو/ تموز الجاري 38.16%. وقد دفعت نسبة المشاركة المتدنيّة في انتخابات 2016 النظام إلى السماح للعسكريين بالتصويت، من دون السماح لهم بالترشّح، بغية تعديل نسبة المقترعين لصالحه. النظام في ورطة حقيقية بسبب امتناع سوريين كثيرين عن المشاركة. صحيحٌ أنّ السكّان تحت سيطرته صامتون، ولكنّ الامتناع يعني عدم القبول به، وإذا عرفنا أنّ مُرشّحين كثيرين في قوائم حزب البعث العربي الاشتراكي، في الدورة الحالية، معروفون بانتهاكات حقوق الإنسان والفساد والسمعة السيئة وجرائم الحرب، وكثيرون منهم عسكريون سابقون وزعماء مليشيات موالية، فإنّ الامتناع مستمرّ، فهؤلاء يتمتّعون بأشكال الرفاهية كلّها، بينما 90% من الشعب تحت خطّ الفقر، وفقاً لإحصاءات الأمم المتّحدة. نعم، لدى النظام مشكلة كبيرة في الشرعية، ورغم شكليّتها له، يتمسّك بها، باعتباره لا يزال يُمثّل سورية في المحافل الدولية.
برزت في هذه الانتخابات فكرة الاستئناس الحزبي لـ"البعث"، وتقوم على أن يترشّح أشخاصٌ من هذا الحزب، قبل موعد الانتخابات، وأن تُشرف القيادة المركزية للحزب على تحديد أسماء المُرشّحين، وبإمكان القيادة رفض كلّ الأسماء وتعيين بدلاء منها أو تثبيت بعضها. وبترشيح الفاسدين عبر قوائم "البعث"، استمرّ امتناع السوريين، مع تضاعف النقمة على النظام بأكمله، فبعد أن وعد النظام السكّان بأنّ الأحوال ستتحسّن، تلاشت أهمّية عودته إلى جامعة الدول العربية، وخفت مستوى التطبيع مع السعودية والإمارات والبحرين، ورفض النظام التقارب مع تركيا، كما أعلنت وزارة الخارجية السورية منذ أيّام، وطالبته إيران بدفع المليارات الخمسين، وربّما أكثر. ذلك كلّه أنهى أيّ إمكانية بتحسّن أوضاع السوريين تحت سيطرة النظام، وفُرَص حدوث انفراجات وتغيير إيجابي في الوضعين، الاقتصادي والاجتماعي، وحتّى في شكل السيطرة الأمنية والفساد الشامل لمؤسّسات الدولة كلّها. وعدا عن حاجة روسيا وإيران للانتخابات هذه، باعتبارها تشير إلى وجود دولة، وبانتخاب شعبها مجلساً تشريعياً جديداً، يعني أنّه يُؤيّد احتلال الدولتَين لسورية والاتفاقيات الموقّعة بين النظام وتلك الدولتين، فهناك حاجة لبشّار الأسد إلى مجلسٍ كهذا، وتتمثّل في إيجاد نصّ تشريعي يسمح له بالترشّح لانتخابات 2028، إذ لم يعد قادراً، وفقاً للدستور الذي وضعه نظامه في 2012، أن يترشّح مرّة ثالثة.
أما لماذا ستكون تلك الانتخابات هي الأخيرة، رغم ما في هذه الفكرة من مغامرة التكهّن، فالسبب الذي يمكن التعويل عليه هو الاهتراء الكامل للنظام وللدولة السوريين، وتفويت النظام الفرص وكل المبادرات للخروج من أزمته، ومعه الدولة السورية، في ظلّ تطبيع عربي مع النظام متعثّر، ورفض النظام التطبيع مع تركيا، كما تقدّم ذكره. وهناك خلافات كبيرة بين إيران وروسيا في ما يخصّ الحصص في سورية، أو في التأثير في النظام وسياساته؛ فمثلاً تفضّل روسيا التطبيع مع تركيا، بينما ترفض ذلك إيران، وتتّفق روسيا ودولة الاحتلال في فلسطين على تحييد مواقع النظام عن القصف بينما تتّفقان على حقّ هذه الدولة في قصف أيّ أهداف إيرانية، وهذا يعني غياب أيّ إمكانية لدعمٍ حقيقيٍّ لإخراج النظام من أزمته، والنهوض بالبلاد، وهذا سيقود البلاد إلى أشكالٍ غير معهودة من الاهتراء والتخلّع، وربما انتفاض مناطق جديدة تحت سيطرته، كما فعلت السويداء في أغسطس/ آب 2023، وانتفاضتها مُستمرّة.
الانتخابات الحالية، وكذا المُرشّحون فيها، أعطيا انطباعات غاية في السوء لدى أغلبية الشعب الذي لم يكتف بالامتناع عن المشاركة؛ فأخيراً، خرجت مظاهرة يومين متتاليين في بلدة جرمانا (جنوب شرقي العاصمة)، وكانت أسبابها مرتبطة بمطالب خدمية؛ تأمين ساعات أطول تتوفّر فيها الكهرباء والماء، ولكنّ النظام لن يتمكّن من تحقيقها بانتظام، ولهذا قد تتجدّد الاحتجاجات في الأشهر المقبلة في هذه البلدة، وفي سواها. الاهتراء الذي أصبحت عليه البلاد، لا يمكن العودة عنه، وهناك قرارات دولية رافضة أيّ أشكال من إعادة الإعمار أو التطبيع الواسع مع النظام. وتفيد بعض التقارير بأنّ الولايات المتّحدة قد تعود إلى توقيع قرار عدم التطبيع معه، وهناك قضايا دولية، أصبحت تلاحق قادة النظام، وهذا ممّا لا يمكن التراجع عنه، وليست روسيا أو إيران مشغولتين بسحب تلك القضايا (منها المرفوعة ضدّ النظام في فرنسا)، وهذا غير ممكن من أصله، فالقضاء في أوروبا مُستقلّ، وقد تستخدمانها وسيلة إضافية لابتزازه.
اهتراء النظام مستمر، وسيشمل الدائرة الضيّقة في السلطة، ومقتل مستشارة الرئيس لونا الشبل مُؤشّرٌ من داخل تلك الدائرة، وإلى تفكّكها.
أسباب كثيرة، تدفع إلى القول إنّ عدم تفعيل قرارات مجلس الأمن منذ 2012، وفشل مسارات أستانة وسوتشي، ومناطق خفض التصعيد، وهي مسارات روسيّة، في تدجين الشعب السوري لم ينهِ الوضع في سورية، وقد اندلعت مظاهرات حاشدة في بداية يوليو/ تمّوز الجاري، ولم تتوقّف ضدّ التطبيع مع النظام، وهناك مراكز اعتصام مفتوحة في عفرين وإعزاز، وهي مناطق خارجة عن سيطرة النظام، وترفض التطبيع بينه وبين تركيا، وترفض أيَّ ضغطٍ تركي لإجبار الشعب على الصمت والمصالحة. وصارت مطالب الشعب ترفض حتّى التدخّل التركي في شؤون "المحرّر"، وأَسقطت الائتلاف الوطني لقوى المُعارَضة والحكومة المُؤقّتة. وإلى ذلك، ثمّة مظاهرات السويداء المستمرّة، وعدم الاستقرار في درعا، ومظاهرات إدلب ضدّ هيئة تحرير الشام، وهناك مظاهرات عربية مُستمرّة ضد قوات سوريا الديمقراطية (الكردية)، ورفض روسيا وإيران دعم النظام مُجدّداً والرفض الدولي لتعويمه. من ثم، سيتسمرّ الاهتراء الكامل للنظام، وللدولة، وسيشمل هذا الدائرة الضيّقة في السلطة، ومقتل مستشارة الرئيس لونا الشبل مُؤشّرٌ من داخل تلك الدائرة، وإلى تفكّكها.
هل ستكون هذه الانتخابات الأخيرة؟ أغلب الظنّ، نعم.